عمدة القاري - العيني - ج ١ - الصفحة ١٤٩
شريعته. وقال بعضهم: المحبة مواطأة القلب على ما يرضي الرب سبحانه، فيحب ما أحب ويكره ما يكره. قال القاضي عياض: ومعنى حب الله الاستقامة في طاعته، والتزام أوامره ونواهيه في كل شيء. والمراد ثمرات المحبة، فإن أصل المحبة الميل لما يوافق المحبوب، والله سبحانه منزه أن يميل أو يمال إليه، وأما محبة الرسول فيصح فيها الميل، إذ ميل الإنسان لما يوافقه إما للاستحسان كالصورة الجميلة والمطاعم الشهية وشبههما، أو لما يستلذه بعقله من المعاني والأخلاق كمحبة الصالحين والعلماء وإن لم يكن في زمانهم، أو لمن يحسن إليه ويدفع المضرة عنه، وهذه المعاني كلها موجودة في حق النبي صلى الله عليه وسلم من كمال الظاهر والباطن، وجمعه الفضائل وإحسانه إلى جميع المسلمين بهدايته إياهم وإبعادهم عن الجحيم. قوله: (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله) هذا حث على التحاب في الله، لأجل أن الله جعل المؤمنين أخوة قال الله تعالى: * (فأصبحتم بنعمته إخوانا) * (آل عمران: 103) ومن محبته ومحبة رسوله محبة أهل ملته، فلا تحصل حلاوة الإيمان إلا أن تكون خالصة لله تعالى، غير مشوبة بالأغراض الدنيوية ولا الحظوظ البشرية، فإن من أحب لذلك انقطعت تلك المحبة عند انقطاع سببها، قوله: (وأن يكره) إلى آخره. معناه أن هذه الكراهة إنما توجد عند وجود سببها، وهو ما دخل قلبه من نور الإيمان، ومن كشف له عن محاسن الإسلام وقبح الجهالات والكفران، وقيل: المعنى أن من وجد حلاوة الإيمان وعلم أن الكافر في النار يكره الكفر لكراهته لدخول النار. قلت: وقائل هذا المعنى حافظ على بقاء لفظ العود على معناه الحقيقي، ومعناه هنا معنى الصيرورة، قال تعالى: * (وما يكون لنا أن نعود فيها) * (الأعراف: 89).
(بيان البيان) قوله: (حلاوة الإيمان) فيه استعارة بالكناية، وذلك لأن الحلاوة إنما تكون في المطعومات، والإيمان ليس مطعوما، فظهر أن هذا مجاز، لأنه شبه الإيمان بنحو العسل، ثم طوى ذكر المشبه به، لأن الاستعارة هي أن يذكر أحد طرفي التشبيه مدعيا دخول المشبه في جنس المشبه به، فالمشبه: إيمان، والمشبه به: عسل ونحوه، والجهة الجامعة وهو وجه الشبه الذي بينهما: هو الالتذاذ وميل القلب إليه فهذه هي الاستعارة بالكناية، ثم لما ذكر المشبه أضاف إليه ما هو من خواص المشبه به ولوازمه، وهو: الحلاوة على سبيل التخيل، وهي استعارة تخييلية، وترشيح للاستعارة. قوله: (كما يكره أن يقذف في النار) تشبيه وليس باستعارة، لأن الطرفين مذكوران. فالمشبه هو: العود في الكفر، والمشبه به وهو: القذف في النار، ووجه الشبه هو: وجدان الألم وكراهة القلب إياه.
(الأسئلة والأجوبة): منها: ما قيل: ما الحكمة في كون حلاوة الإيمان في هذه الأشياء الثلاثة؟ وأجيب: بأن هذه الأمور الثلاثة هي عنوان كمال الإيمان المحصل لتلك الذة، لأنه لا يتم إيمان امرئ حتى يتمكن في نفسه أن المنعم بالذات هو الله، سبحانه وتعالى، ولا مانح ولا مانع سواه، وما عداه، تعالى وسائط ليس لها في ذاتها إضرار ولا انفاع، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو العطوف الساعي في صلاح شأنه، وذلك يقتضي أن يتوجه بكليته نحوه، ولا يحب ما يحبه إلا لكونه وسطا بينه وبينه، وأن يتيقن أن جملة ما أوعد ووعد حق تيقنا يخيل إليه الموعود كالواقع، والاشتغال بما يؤول إلى الشيء ملابسة به، فيحسب مجالس الذكر رياض الجنة، وأكل مال اليتيم أكل النار، والعود إلى الكفر إلقاء في النار. ومنها ما قيل: لم عبر عن هذه الحالة بالحلاوة؟ وأجيب: لأنها أظهر اللذات المحسوسة، وإن كان لا نسبة بين هذه اللذة واللذات الحسية. ومنها ما قيل: لم قيل: مما سواهما، ولم يقل: ممن سواهما؟ وأجيب: بأن: ما، أعم بخلاف: من فإنها للعقلاء فقط. ومنها ما قيل: كيف قال: سواهما، بإشراك الضمير بينه وبين الله عز وجل، والحال أنه صلى الله عليه وسلم أنكر على من فعل ذلك وهو الخطيب الذي قال: ومن يعصهما فقد غوى فقال: (بئس الخطيب أنت)؟ وأجيب: بأن هذا ليس من هذا، لأن المراد في الخطب الإيضاح، وأما هنا فالمراد الإيجاز في اللفظ ليحفظ، وما يدل عليه ما جاء في سنن أبي داود: (ومن يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فلا يضر إلا نفسه). وقال القاضي عياض: وأما تثنية الضمير ههنا فللإيماء يماء على أن المعتبر، هو المجموع المركب من المحبتين لا كل واحدة، فإنها وحدها ضائعة لاغية وأمر بالإفراد في حديث الخطيب، إشعارا بأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزامه الغواية، إذ العطف في تقرير التكرير، والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم. وقال الأصوليون: أمر بالإفراد لأنه أشد تعظيما، والمقام يقتضي ذلك، ويقال إنه من الخصائص فيمتنع من غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يمتنع منه، لأن غيره إذا جمع أوهم
(١٤٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 144 145 146 147 148 149 150 151 152 153 154 ... » »»