أنصار الحسين (ع) - محمد مهدي شمس الدين - الصفحة ١٨٦
(ويلكم يا حمقاء، مهلا، أتدرون من تقاتلون؟ إنما تقاتلون فرسان المصر، وأهل البصائر، وقوما مستميتين..) (1).
إن (فرسان المصر) في مجتمع محارب، وهو ما كأنه المجتمع العربي الاسلامي في ذلك الحين، تعبير يعني الشخصيات البارزة في المجتمع، فقد كان التفوق في الحقل العسكري أحد أفضل السبل لتبوء مركز اجتماعي مرموق يبعث على الاحترام، بل لقد كانت هذه الصفة خليقة بأن تجعل الناس يغضون النظر عما قد يكون في الرجل من خلال معيبة في نظر المجتمع (2) و (أهل البصائر) (3) تعبير يعنى به الواعون الذين يتخذون مواقفهم

(١) الطبري: ٥ / ٤٣٥.
(٢) إن التفوق في الحقل العسكري كان خليقا بأن يبعث على تجاوز النظرة المتحيزة ضد صفة العجمة عند الموالي، وأن يبعث على احترام المولى وتقديره، لاحظ الكامل: ٣ / ٣١٦ - ٣١٧.
(٣) من المؤكد أن هذا التعبير مصطلح ثقافي إسلامي يعني: الفئة الواعية للاسلام على الوجه الصحيح، والملتزمة به في حياتها بشكل دقيق، بحيث تتخذ مواقف مبدئية من المشكلات التي تواجهها في الحياة والمجتمع، ولا تقف على الحياد أمام هذه المشكلات وإنما تعبر عن التزامها النظري بالممارسة اليومية لنضال ضد الانحرافات.
ويبدو لنا من دراسة مستعجلة لهذا المصطلح أنه ولد في الثقافة الاسلامية في وقت مبكر، وبالتحديد حين بدأت قوى الانحراف تنشر مفاهيمها وأساليبها وتجمع لنفسها الأنصار. ولذا نجد أنه كثير الورود في كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي أسفرت قوى الانحراف في عهده عن وجهها واضطرته لخوض المعارك الفكرية والعسكرية معها، وإذا كان قد عجز عن دحرها عسكريا وتحطيمها بشكل نهائي، واخراجها من دائرة الحياة الاسلامية، فإنه قد أفلح في فضحها، وبيان زيفها على الصعيد الفكري.
لقد ورد هذا المصطلح في خطب أمير المؤمنين علي، وكتبه وكلماته القصار للتعبير عن الفئة الواعية في مقابلة غير الواعين، ولبيان موقف الفئة الواعية من الاغراءات، أو للتعبير عن موقف الانسان غير الواعي من الاغراءات والمخاوف.
فقد ورد مثلا في كتاب منه إلى معاوية بن أبي سفيان، قوله:
(وأرديت جيلا من الناس كثيرا خدعتهم بغيك، وألقيتهم في موج بحرك.. فجاروا عن وجهتهم ونكصوا على أعقابهم،... وعولوا على أحسابهم، إلا من فاء من أهل البصائر، فإنهم فارقوك بعد معرفتك، وهربوا إلى الله من موازرتك) نهج البلاغة - باب الكتب - رقم النص: ٣٢.
ومما قاله عز الدين بن أبي الحديد في شرحه تعليقا على هذا النص:
((وعولوا على أحسابهم) أي لم يعتمدوا على الدين، وإنما أردتهم الحمية ونخوة الجاهلية فاخلدوا إليها وتركوا الدين، ثم استثنى قوما فاءوا...) شرح نهج البلاغة: ١٦ / ١٣٢ - ١٣٣.
وورد في خطبة له يومئ فيها إلى الملاحم ويصف فئة من أهل الضلال:
(وطال الأمد بهم ليستكملوا الخزي، ويستوجبوا الغير، حتى إذا اخلو لحق الاجل، واستراح قوم إلى الفتن - لم يمنوا (أهل البصائر) على الله بالصبر، ولم يستعظموا بذل أنفسهم في الحق، حتى إذا وافق وارد القضاء انقطاع مدة البلاء، حملوا بصائرهم على أسيافهم، ودانوا لربهم بأمر وأعظمهم).
وهو يعني الجاهليين من جهة والمسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله من جهة أخرى.
وقال ابن أبي الحديد في شرحه تعليقا إلى هذا النص.
(.. حتى إذا ألقى هؤلاء السلام إلى هذه الفئة عجزا عن القتال، واستراحوا من منابذتهم بدخولهم في ضلالتهم وفتنتهم... أنهض الله هؤلاء، العارفين الشجعان فنهضوا (وحمل هؤلاء العارفون بصائرهم على أسيافهم... يعني أنهم أظهروا بصائرهم وعقائدهم للناس وكشفوها، وجردوها من أجفافها، فكأنها شئ محمول على السيوف يبصره من يبصر السيوف...) شرح نهج البلاغة: ٩ / ١٢٩ - ١٣١.
إن قوله: (حملوا بصائرهم على أسيافهم) يعني في لغتنا الحاضرة: المواقف المبدئية المعلنة والنضال في سبيلها.
ومن النصوص التي وردت في نهج البلاغة عن أهل البصائر قوله عليه السلام في خطبة من خطب الملاحم.
(قد انجابت السرائر لأهل البصائر ووضحت محجة الطريق لخابطها...) ومن ذلك قوله في خطبة يصف فيها النحلة والجرادة.
(ولو فكروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق وخافوا عذاب الحريق، ولكن القلوب عليلة والبصائر مدخولة...).
ومن ذلك قوله يخاطب أصحابه:
(... فانفذوا على بصائركم، ولتصدق نياتكم في جهاد عدوكم، فوالذي لا إله إلا هو اني لعلى جادة الحق، وإنهم لعلى مزلة الباطل...) ومن ذلك قوله في دعاء.
(اللهم انك آنس الآنسين لأوليائك.. تشاهدهم في سرائرهم، وتطلع عليهم في ضمائرهم وتعلم مبلغ بصائرهم...).
ومن ذلك قوله في إحدى كلماته القصار:
(... الأماني تعمي أعين البصائر...).
وورد هذا المصطلح في كلمة للمهدي العباسي قالها لوزيره الربيع علق بها على موقف أحد الثوار في عهده وصلابته وثباته: (أما ترى قلة خوفه وشدة قلبه، هكذا تكون والله أهل البصائر)) مقاتل الطالبيين: ٤١٨.
(١٨٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 180 181 182 183 185 186 187 188 189 190 191 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة