الهواء لما استقر الفلك على ظهره بل غاص فيه، ولو جعله كثيفا محضا مثل الأرض لما أمكن من قطعه وشقه فجعل متوسطا بينهما لتكميل مصالحهم، قال القاضي: القصد من هذه الآية إلى الاستدلال بالبحر وأحواله وتخصيص الفلك لأنه سبب الخوض فيه والاطلاع على عجائبه ولذلك قدمه على ذكر المطر والسحاب لأن منشأهما البحر في غالب الأمر، وقيل: الحكمة في عدم رسوب السفينة إلى الماء وإن كان بعض أجزائه أو كلها أثقل منه كالحديد هي أن الأجسام المتداخلة بعضها في بعض بمنزلة جسم واحد والمعتبر في الرسوب في الماء وعدمه ثقل المجموع بالقياس إليه وعدمه; ولذلك لو كثرت الحمولة وقل الهواء الداخل بحيث يكون المجموع أثقل من الماء لرسب فيه وغرق أهلها، والضابطة فيه أنه إذا فرض مع الماء جسم آخر فإن كان نسبة حجمه إلى حجم الماء كنسبة ثقله إلى ثقل الماء فلا يرسب فيه أصلا بل يكون سطحه العالي مساويا لسطح الماء في العلو والسفل وإن كانت نسبة حجمه إلى حجم الماء أقل منها فيرسب فيه البتة وبقدر تفاوت ثقله يكون سرعة حركته وبطؤها في النزول إلى القعر، وإن كانت أكثر فلا يرسب على الطريق الأولى لكن يخرج منه شئ من الماء ثم بقدر أكثرية هذه النسبة يكون خروج أبعاضه حتى يستوفي جميع النسبة التي يتصور بينهما وإن لم يبق بينهما نسبة أصلا وذلك بأن لا يكون لذلك الشئ ثقل وميل إلى المركز أصلا وعند ذلك يكون مماسا له بنقطة إن كان كرة أو بخط أو سطح إن كان غيرها من الاشكال كل ذلك إذا كان غير طالب للعلو وإلا فيرفع منفصلا على الماء ذلك تقدير العزيز العليم.
(وما أنزل الله من السماء من ماء) «من» الأولى للابتداء والثانية للبيان والسماء يحتمل الفلك والسحاب المعلق وهذه من آيات وجوده سبحانه وقدرته وحكمته وحسن تدبيره من جهة كيفية نزو المطر ومبدء نزوله وفوائده. أما الأول فإنه ينزل متقاطرا متعاقبا ولو نزل متصلا دفعة واحدة مثل البحر لأضر كل ما تصيبه وينزل في وقت دون وقت آخر على تعاقب بينه وبن الصحو لما في دوام أحدهما من فساد العالم وبطلان نظامه، إذ لو دام المطر عفنت البقول والنباتات واسترخت أبدان الإنسان وساير الحيوانات وحسر الهواء فأحدث ضروبا من الأمراض والوباء وأفسد الطرق والمسالك والبلاد وأخرب البناء إلى غير ذلك من المفاسد التي لا يحيط بها العد والإحصاء، ولو دام الصحو جفت الأرض واحترق النبات وغيض ماء العيون والأودية وغلب اليبس وحدث القحط والجدب وضروب من الأمراض، وفيه هلاك الأرض ومن عليها وما فيها جميعا، ففي هذا التعاقب على النحو المشاهد الذي يوجب اعتدال الهواء ونظام الأشياء وصلاحها واستقامتها ودفع كل منهما عادية الآخر دلالة على اللطيف الخبير، وأما الثاني فقال بعض الطبيعيين أن الشمس وغيرهما إذا أثرت في الأرض يخرج منها أبخرة متصاعدة إلى الطبقة الزمهريرية التي لا يصل إليها أثر شعاع