تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٧٩
وخضعت لجبروته وغاية العبد الضعيف أن جعله الله جزءا من أجزاء الأسباب التي بها وجدت هذه الأمور العظام فهذا يدل على رحمة الله وعنايته بخلقه وذلك يوجب أن تكون المحبة كلها له والخوف والرجاء وجميع الطاعة والذل والتعظيم * (وما أنزل الله من السماء من ماء) * وهو المطر النازل من السحاب * (فأحيا به الأرض بعد موتها) * فأظهرت من أنواع الأقوات وأصناف النبات ما هو من ضرورات الخلائق التي لا يعيشون بدونها أليس ذلك دليلا على قدرة من أنزله وأخرج به ما أخرج ورحمته ولطفه بعباده وقيامه بمصالحهم وشدة افتقارهم وضرورتهم إليه من كل وجه؟ أما يوجب ذلك أن يكون هو معبودهم وإلههم؟ أليس ذلك دليلا على إحياء الموتى ومجازاتهم بأعمالهم؟ * (وبث فيها) * أي: في الأرض * (من كل دابة) * أي: نشر في أقطار الأرض من الدواب المتنوعة ما هو دليل على قدرته وعظمته ووحدانيته وسلطانه العظيم وسخرها للناس ينتفعون بها بجميع وجوه الانتفاع فمنها: ما يأكلون من لحمه ويشربون من دره ومنها: ما يركبون ومنها: ما هو ساع في مصالحهم وحراستهم ومنها: ما يعتبر به ومع أنه بث فيها من كل دابة فإنه سبحانه هو القائم بأرزاقهم المتكفل بأقواتهم فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها وفي * (تصريف الرياح) * باردة وحارة وجنوبا وشمالا وشرقا ودبورا وبين ذلك وتارة تثير السحاب وتارة تؤلف بينه وتارة تلقحه وتارة تدره وتارة تمزقه وتزيل ضرره وتارة تكون رحمة وتارة ترسل بالعذاب فمن الذي صرفها هذا التصريف وأودع فيها من منافع العباد ما لا يستغنون عنه؟ وسخرها ليعيش فيها جميع الحيوانات وتصلح الأبدان والأشجار والحبوب والنوابت إلا العزيز الحكيم الرحيم اللطيف بعباده المستحق لكل ذل وخضوع ومحبة وإنابة وعبادة؟ وفي تسخير السحاب بين السماء والأرض على خفته ولطافته يحمل الماء الكثير فيسوقه الله إلى حيث شاء فيحيي به البلاد والعباد ويروي التلول والوهاد وينزله على الخلق وقت حاجتهم إليه فإذا كان يضرهم كثرته أمسكه عنهم فينزله رحمة ولطفا ويصرفه عناية وعطفا فما أعظم سلطانه وأغزر إحسانه وألطف امتنانه!! أليس من القبيح بالعباد أن يتمتعوا برزقه ويعيشوا ببره وهم يستعينون بذلك على مساخطه ومعاصيه؟ أليس ذلك دليلا على حلمه وصبره وعفوه وصفحه وعميم لطفه؟ فله الحمد أولا وآخرا وظاهرا وباطنا والحاصل أنه كلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات وتغلغل فكره في بدائع المبتدعات وازداد تأمله للصنعة وما أودع فيها من لطائف البر والحكمة علم بذلك أنها خلقت للحق وبالحق وأنها صحائف آيات وكتب دلالات على ما أخبر به الله عن نفسه ووحدانيته وما أخبرت به الرسل من اليوم الآخر وأنها مسخرات ليس لها تدبير ولا استعصاء على مدبرها ومصرفها فتعرف أن العالم العلوي والسفلي كلهم إليه مفتقرون وإليه صامدون وأنه الغني بالذات عن جميع المخلوقات فلا إله إلا الله ولا رب سواه (165 - 167) ثم قال تعالى: * (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار) * ما أحسن اتصال هذه الآية بما قبلها فإنه تعالى لما بين وحدانيته وأدلتها القاطعة وبراهينها الساطعة الموصلة إلى علم اليقين المزيلة لكل شك ذكر هنا أن * (من الناس) * مع هذا البيان التام من يتخذ من المخلوقين أندادا لله أي: نظراء ومثلاء يساويهم في الله بالعبادة والمحبة والتعظيم والطاعة ومن كان بهذه الحالة - بعد إقامة الحجة وبيان التوحيد - علم أنه معاند لله مشاق له أو معرض عن تدبر آياته والتفكر في مخلوقاته فليس له أدنى عذر في ذلك بل قد حقت عليه كلمة العذاب وهؤلاء الذين يتخذون الأنداد
(٧٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 ... » »»