فإن قيل: إنما يستقيم هذا الكلام أن لو كان هذا الحديث واردا بعد تحريم السباع قلنا:
حرمة لحم السباع قبل ورود هذا الحديث يخلوا أن تكون ثابتة أو لم تكن: فإن كانت ثابتة فظاهر، وإن لم تكن ثابتة لا تكون الحرمة من لوازم كونه سبعا فلا يمكن جعله مجازا عنها أو نقول. ابتداء لا يجوز أن تكون حرمة اللحم مرادة من هذا الحديث لأن فيه حمل كلام الرسول عليه الصلاة والسلام على الإعادة لا على الإفادة، سواء كان هذا الحديث سابقا أو مسبوقا تأمل تدر أه. فثبت بهذا كراهة سؤرها، ويحمل إصغاء أبي قتادة الاناء على زوال ذلك التوهم بأن كانت بمرأى منه في زمان يمكن فيه غسلها فمها بلعابها. وأما على قول محمد فيمكن كونه بمشاهدة شربها من ماء كثير أو مشاهدة قدومها عن غيبة يجوز معها ذلك فيعارض هذا التجويز أكلها نجسا قبيل شربها فيسقطه فتبقى الطهارة دن كراهة لأنها ما جاءت إلا من ذلك التجويز وقد سقط، وعلى هذا لا ينبغي إطلاق كراهة أكل فضلها والصلاة إذا لحست عضوا قبل غسله كما أطلقه شمس الأئمة وغيره بل يقيد بثبوت ذلك التوهم، فأما لو كان زائلا بما قلنا فلا. وقد تسامح في غاية البيان حيث قال: ومن الواجب على العوام أن يغسلوا مواضع لحس الهرة إذا دخلت تحت لحافهم لكراهة ما أصابه فمها فإنا قدمنا أن الصحيح أنها تنزيهية وترك المكروه كراهة تنزيه مستحب لا واجب إلا أن يراد بالواجب الثابت، ولا يخفى أن كراهة أكل فضلها تنزيها إنما هو في حق الغني لأنه يقدر على غيره، أما في حق الفقير فلا يكره كما صرح به في السراج الوهاج وهو نظير ما قالوا إن السؤر المكروه إنما يكون عند وجود غيره، أما عند عدم غيره فلا كراهة أصلا. واعلم أن قولهم إن الأصل في سؤر الهرة أن يكون نجسا وإنما سقطت النجاسة بعلة الطواف يفيد أن سؤر الهرة الوحشية نجس وإن كان النص بخلافه لعدم العلة وهي الطواف لأن العلة إذا كانت ثابت بالنص وعرف قطعا أن الحكم متعلق بها فالحكم يدور على وجودها لا غير كعدم حرمة التأفيف للوالدين إذا لم يعلم الولد معناه، أو استعمله بجهة الاكرام. ذكره فكشف الاسرار في بحث دلالة النص. وأما سؤر الدجاجة المخلاة فلأنها تخالط النجاسة فمنقارها لا يخلو عن قذر، وكذا البقر الجلالة والإبل الجلالة إلا أن تكون محبوسة. واختلفوا في تفسيرها فقيل هي التي تحبس في بيت ويغلق بابه وتعلف هناك لعدم النجاسة على منقارها لا من حيث الحقيقة ولا من حيث الاعتبار لأنها لا تجد عذرات غيرها حتى تجول فيها وهي في عذرات نفسها لا تجول، وإليه ذهب شيخ الاسلام في مبسوطه. وحكي عن الإمام الحاكم عبد الرحمن أنه قال: لم يرد بكونها محبوسة أن تكون محبوسة في بيتها لأنها وإن كانت محبوسة تجول في عذارت نفسها فلا