ثم نقله إلى الجامع الأزهر وعمره أربع عشرة سنة وقرأ فيه على مشايخ كثيرين، منهم شيخ الاسلام زكريا الأنصاري. وكان لا يجتمع به إلا ويقول له، أسأل الله أن يفقهك في الدين، وكان رضي الله عنه يقول: قاسيت في الجامع الأزهر من الجوع ما لا تحتمله الجبلة البشرية لولا معونة الله وتوفيقه، بحيث أني جلست فيه نحو أربع سنين ما ذقت اللحم، وقاسيت أيضا من الايذاء من بعض أهل الدروس التي كنا نحضرها ما هو أشد من ذلك. ومن كلامه رضي الله تعالى عنه:
إذا أنت لا ترضى بأدنى معيشة * مع الجد في نيل العلا والمآثر فبادر إلى كسب الغنى مترقبا * عظيم الرزايا وانطماس البصائر وتوفي رضي الله تعالى عنه ثالث عشر رجب سنة أربع وسبعين وتسعمائة، وعمره إذ ذاك خمس وستون. وصلي عليه عند الملتزم الشريف بعد العصر، ودفن بالمعلى. طيب الله ثراه وجعل الجنة مقره ومثواه. وفيه أنشد بعضهم حين رأى الرجال تحمل نعشه:
انظر إلى جبل تمشي الأنام به وانظر إلى القبر كم يحوي من الشرف وانظر إلى صارم الاسلام منغمدا وانظر إلى درة الاسلام في الصدف (قوله: وشيخي) بصيغة التثنية، معطوف على قوله شيخنا، حذفت منه النون للإضافة. وقوله (مشايخنا) يقرأ بالياء لا بالهمزة لان ياء المفرد ليست مدا زائدا ثالثا، وإلى ذلك أشار ابن مالك بقوله:
والمد زيد ثالثا في الواحد همزا يرى في مثل كالقلائد (قوله: شيخ الاسلام) أي شيخ أهل الاسلام، وهو بدل من المضاف قبله. (قوله: المجدد) يحتمل قراءته بصيغة اسم المفعول ويكون صفة للاسلام، والمراد: الاسلام المجدد، أي الذي جدده النبي (ص) وأظهره بعد أن اندرس. ويحتمل قراءته بصيغة اسم الفاعل ويكون صفة لشيخ الاسلام، والمراد أنه رضي الله عنه هو المجدد للدين. (قوله: زكريا الأنصاري) بدل مما قبله، وإنما قدم اللقب على الاسم لشهرته به، مثل قوله تعالى: * (إنما المسيح عيسى ابن مريم) * ولد رضي الله عنه سنة ست وعشرين وثمانمائة بسنيكة ونشأ بها، فحفظ القرآن والعمدة ومختصر التبريزي، ثم تحول للقاهرة سنة إحدى وأربعين ومكث بالجامع الأزهر، وأخذ عن مشايخ كثيرين. وكان له بر وإيثار لأهل العلم والفقراء ويخير مجالسهم على مجالس الامراء، وكان له تهجد وصبر وترك للقيل والقال، وكان مجاب الدعوة رضي الله عنه. حتى إنه يحكى أنه جاءه رجل أعمى وقال له ادع الله أن يرد بصري. فدعا له فرد الله بصره من ثاني يوم. ولم يزل رضي الله عنه في ازدياد من الترقي حتى لحق بربه العلي وعمره نحو مائة سنة. فرحمه الله رحمة الأبرار وأسكنه جنات تجري من تحتها الأنهار وأمدنا بمدده. (قوله: معتمدا) حال من التاء في انتخبته، أي انتخبته من الكتب المعتمدة لهؤلاء حال كوني معتمدا على ما جزم به إلخ. (وقوله: النووي) نسبة لنوى قرية من قرى دمشق، ولد بها رضي الله عنه سنة ثلاثين وستمائة، وتوفي بها سنة ست وسبعين وستمائة، عن نحو ست وأربعين سنة. عد عمره ومؤلفاته فجاء لكل يوم كراس من يوم الولادة، وما أعظمهما منقبة. ولبعضهم في مدحه - رضي الله عنه -:
لقيت خيرا يا نوى ووقيت آلام الجوى فلقد نشأ بك عالم لله أخلص ما نوى