ديوان السيد حيدر الحلي - السيد حيدر الحلي - ج ١ - الصفحة ٦
مراثيه لآل البيت إن أدب الرثاء عند العرب قبل الاسلام وبعده بقليل كان محدودا وله قالب خاص لا يحيد عنه الشاعر لضيق دائرة المتوفى والصفات التي لحقته مهما بلغ الفقيد من العظمة، حتى صار أكثر الأدباء يعتقدون من جراء ذلك بأن فن الرثاء أضيق دائرة من غيره من سائر فنون الشعر كالغزل والنسيب والمدح والفخر والحماسة والوصف إلى غير ذلك، ولكن فن الرثاء بعد (واقعة الطف) أخذ يتطور بشكل خاص لما حدث في هذه الواقعة من عوامل وأسباب تتعلق بصميم الخلافة الاسلامية من جهة، ومن جهة أخرى اصطدمت بالشعور الانساني لما جرى فيها من فضائع وأهوال، وهتك لحرم مصونات، وقتل لأطفال أبرياء مما أثار كوامن النفوس البشرية على الاطلاق.
ولو تأملنا في معرفة الفروق التي حدثت بين أدب الرثاء قبل وقعة الطف وبعدها لرجعنا إلى البيت الذي تغنت به الركبان من كونه أحسن بيت قيل فيه وهو قول ليلى بنت طريف ترثي أخاها:
أيا شجر الخابور مالك مورقا * كأنك لم تجزع على ابن طريف ومع ما في هذا البيت من سمو فإنه يتضاءل أزاء فن الرثاء بعد وقعة الطف، ولو دققنا النظر في معرفة مقياس تطوره لظهر لنا أن أدب الرثاء عند الفراتيين سما إلى أن بلغ الذروة من هذا الفن، لما أتصف به أدباء الفرات من خيال خصب، وذهن متوقد، وفكر نير، وشجاعة مشفوعة بعروبة متواصلة، حقا إذا ما بعثت هذه الواقعة هذا الأثر، فقد تعاقبت الزمر تلوم الزمر يندبون بطلها الإمام الحسين بشتى الأساليب وبمختلف اللغات، وقد عرف لهذه الواقعة شعراء خلدوا بخلود هذه الواقعة آخرهم صاحب الديوان، فقد ناح جده الإمام الحسين وأولاده الأئمة من بعده نوح الثكالى، وخلد له في هذا الميدان من القطع التي حازت على الاعجاز الأدبي بكونها تتضوع كلما كررت على السمع.
عرف صاحب الديوان كما تناقلت الرواة أخباره أنه موتور لم يهدأ في كل عام يمر عليه دون أن يسجل فيه مثالب قاتلي جده الإمام الحسين ومنتهكي حرمته بأنواع من القول تعدت إلى ما وراء التصور.
ولقد حاز على قصب السبق من جراء ذلك في هذا الميدان الطويل الذي جرى فيه رهط كبير من أعلام الشعراء فكان السباق والمجلي، هاك فاقرأ أبياتا من شعره الذي سجله بمذاب القلب بقوله:
عجبا للعيون لم تغد بيضا * لمصاب تحمر فيه الدموع وأسى شابت الليالي عليه * وهو للحشر في القلوب رضيع أين ما طارت النفوس شعاعا * فلطير الردى عليه وقوع فأبى أن يعيش إلا عزيزا * أو تجلى الكفاح وهو صريع فتلقى الجموع فردا ولكن * كل عضو في الروع منه جموع زوج السيف بالنفوس ولكن * مهرها الموت والخضاب النجيع أحسب أن هذه الأبيات لا تحتاج بمعناها الرفيع إلى ايضاح لما حوته من نكت البديع بحسن انسجام ورصانة تركيب لقوله: (زوج السيف بالنفوس) فلا بدع إذا كان المرحوم أمير الشعراء أحمد شوقي بك مفتونا بشعر هذا العميد حينما اجتمع به أحد طلاب البعثة العراقية في طريقه إلى (السوربون) فقال له إقرأ لي شعرا فراتيا فقرأ له من شعر بعض الشعراء المعاصرين فقال له: لا:!! إقرأ:
عثر الدهر ويرجوا أن يقالا * تربت كفك من راج محالا وأتم القصيدة له، إذا حق لشوقي أن يعجب ويعجب!! لأنه لا يعرف العظيم إلا العظيم كيف لا وقد جلل شعره فن البديع بأنواعه من مقابلة إلى جناس إلى تورية، كما نجد ان (البيان) قد حف به لاقتران اللفظ بالمعنى، ولا ننسى أنه هو الذي يقول:
يلقى الكتيبة مفردا * فتفر دامية الجراح وبهامها اعتصمت مخافة * بأسه بيض الصفاح وتسترت منه حياء في * الحشا سمر الرماح أفهل سبق أن سمعت من المتقدمين والمتأخرين قائلا: وتسترت منه حياء في الحشا سمر الرماح، وهل تعتقد بأن هذا شعر ينتزعه الشاعر من مخيلته ساعة أن يشأ.
كلا بل كما قال الأستاذ الجواهري إنه ذوب قلوب * صيغ من لفظ مذاب ولعلك لا تصدق إذا قلت إن ديوانا كاملا كله على هذا الأسلوب من المتانة والانسجام قد تداخلت فيه جميع أنواع الشعر غير أن ظاهره الرثاء، واليك ما يقوله في الحسين وفتيانه البواسل:
غداة أبو السجاد جاء يقودها * أجادل للهيجاء يحملن أنسرا عليها من الفتيان كل ابن نثرة * يعد قتير الدرع وشيا محبرا أشم إذا ما أفتض للحرب عذرة * تنشق من أعطافها النقع عنبرا من الطاعني صدر الكتيبة في الوغى * إذا الصف منها من حديد توقرا فما عبروا إلا على ظهر سابح * إلى الموت لما ماجت البيض أبحرا فان يمس مغبر الجبين فطالما * ضحى الحرب في وجه الكتيبة عبرا وان يقض ظمآنا تفطر قلبه * فقد راع قلب الموت حتى تفطرا تجلى لك أيها القارئ الكريم ماذا أدخله الشاعر على فن الرثاء من أسلوب بديع، وفن مبتكر، فبينما تجده في صدر البيت يرثي فيقول: فان يمس مغبر الجبين. تراه قد انتقل إلى الفخر والحماس بقوله: فطالما ضحى الحرب، وهو لا يزال في البيت نفسه، وهكذا الذي قبله والذي بعده، ولو تأملت في بيت واحد من هذه القصيدة الطويلة يعني به عقائل آل البيت لاستشعرت ما غمر أدب الرثاء من الفن العجيب والأسلوب الساحر بقوله:
مشى الدهر يوم الطف أعمى فلم يدع * عمادا لها إلا وفيه تعثرا أهل سبق أن شاعرا صور فقد الثواكل لعميدها بمثل هذه اللغة الرصينة، ولا أحسب أني لو حدثتك عن هذا الشاعر وعرضت عليك صورا من شعره أياما وليالي يعتريك سأم أو يخامرك ملل، كيف وهو ينحت من قلبه ويقدمه لك كقوله:
وخائضين غمار الموت طافحة * أمواجها البيض بالهامات تلتطم مشوا إلى الحرب مشي الضاريات لها * فصافحوا الموت فيها والقنا أجم فالحرب تعلم إن ماتوا بها فلقد * ماتت بها منهم الأسياف لا الهمم قومي الألى عقدوا قدما مآزرهم * على الحمية ما ضيموا ولا اهتضموا عهدي بهم قصر الأعمار شأنهم * لا يهرمون وللهيابة الهرم لا شك أن أصدق صورة لنفسية الشاعر شعره الذي تصعده نفثات صدره وفي هذا ما أعرب شاعرنا عما كمن في قلبه من ضرام تركه هذا الحادث الفادح مما دعى أن يستنجد بقومه الذين قصرت أعمارهم لعدم قرارهم على الذل، وما أحلاه حينما يستغرق في وصفهم بقوله:
متنافسين على المنية بينهم * فكأنما هي غادة معطار سمة العبيد من الخشوع عليهم * لله ان ضمتهم الأسحار وإذا ترجلت الضحى شهدت لهم * بيض القواضب أنهم أحرار فهل تأملت هذه المقابلة البديعية، عبيد وأحرار، وضحى وأسحار، وعبثا أحاول أن أحيطك بالجيد من شعره وبين يديك ديوانه الذي يشهد بأنه أمير فن الرثاء بلا منازع.
أكتفي بهذا القدر فلقد سبق أن نشرت مقالا طويلا في السنة الأولى من مجلة (البيان) تحت عنوان (وقعة الطف وتأثيرها على الأدب العربي) بحثت فيه أدب الرثاء في القرون الاسلامية وعند الفراتيين وذكرت أسماء الاعلام الذين ساهموا في بعثه وتوسع دائرته وفي الطليعة منهم صاحب الديوان، اقتطفته من كتابي (شعراء الحسين).
(٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 ... » »»