من مكة، ومعه أهله قريبا منه فيقيم فيه هذا الشهر ويطعم من جاءه من المساكين، ويقضي وقته في العبادة، والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون، وفيما وراءها من قدرة مبدعة.. وكان اختياره (ص) لهذه العزلة طرفا من تدبير الله له، ليعده لما ينتظره من الامر العظيم.. ففي هذه العزلة كان يخلو إلى نفسه، ويخلص من زحمة الحياة، وشواغلها الصغيرة، ويفرغ لموجبات، ودلائل الابداع، وتسبح روحه مع روح الوجود، وتتعانق مع هذا الجمال، وهذا الكمال، وتتعامل مع الحقيقة الكبرى، وتتمرن على التعامل معها في ادراك وفهم.
(ولا بد لأي روح يراد بها ان تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى..
لا بد لهذه الروح من خلوة، وعزلة بعض الوقت وانقطاع عن شواغل الأرض وضجة الحياة، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة لا بد من فترة للتأمل والتدبر، والتعاون مع الكون الكبير، وحقائقه الطليقة، فالاستغراق في واقع الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له فلا تحاول تغييره اما الانخلاع منه فترة، والانعزال عنه، والحياة في طلاقة كاملة من أسر الواقع الصغير، ومن الشواغل التافهة فهو الذي يؤهل الروح الكبيرة لرؤية ما هو أكبر، ويدربه على الشعور بتكامل ذاته بدون حاجة إلى عرف الناس والاستمداد من مصدر آخر غير هذا العرف الشائع..
(وهكذا دبر الله لمحمد (ص) وهو يعده لحمل الأمانة الكبرى، وتغيير وجه الأرض، وتعديل مسار التاريخ، دبر له هذه العزلة له قبل تكليفه