الثقافة الروحية في إنجيل برنابا - محمود علي قراعة - الصفحة ٦٥
الغنى والاقتدار، وقد قال سبحانه وتعالى: " أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين، نسارع لهم في الخيرات، بل لا يشعرون "، فإن الله سبحانه يختبر عباده المستكبرين أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم، ولقد دخل موسى بن عمران، ومعه أخوه هارون عليهما السلام، على فرعون، وعليهما مدارع الصوف، وبأيديهما العصي، فشرطا له إن أسلم، بقاء ملكه ودوام عزه، فقال (ألا تعجبون من هذين! يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك، وهما بما ترون من حال الفقر والذل)، فهلا ألقي عليهما (أساور من ذهب)، إعظاما للذهب وجمعه، واحتقارا للصوف ولبسه، ولو أراد الله سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان ومعادن العقيان ومغارس الجنان، وأن يحشر معهم طير السماء ووحوش الأرض، لفعل، ولو فعل لسقط البلاء وبطل الجزاء واضمحلت الأنباء، ولما وجب للقابلين أجور المبتلين، ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين، ولا لزمت الأسماء معانيها، ولكن الله سبحانه جعل رسله أولي قوة في عزائمهم وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنى، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذى، ولو كانت الأنبياء أهل قوة لا ترام وعزة لا تضام وملك تمتد نحوه أعناق الرجال وتشد إليه عقد الرحال، لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار، وأبعد لهم في الاستكبار، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم أو رغبة مائلة بهم، فكانت النيات مشتركة والحسنات مقتسمة، ولكن الله سبحانه أراد أن يكون الاتباع لرسله والتصديق بكتبه والخشوع لوجهه والاستكانة لأمره والاستسلام لطاعته، أمورا له خاصة لا يشوبها من غيرها شائبة، وكلما كانت البلوى والاختبار أعظم، كانت المثوبة والجزاء أجزل!
ألا ترون أن الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم صلوات الله عليه، إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضر ولا تنفع، ولا تسمع ولا تبصر، فجعل بيته الحرام الذي جعله للناس قياما، ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجرا وأضيق بطون الأودية قطرا بين جبال خشنة ورمال دمثة، ثم أمر آدم
(٦٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 ... » »»