الثقافة الروحية في إنجيل برنابا - محمود علي قراعة - الصفحة ٣٢٥
(4) أن لا يرى في الوجود إلا واحدا، وهي مشاهدة الصديقين، وتسميه الصوفية الفناء في التوحيد، لأنه من حيث لا يرى إلا واحدا، فلا يرى نفسه.
ويوضح الغزالي المرتبة الثالثة، بأن ينكشف لك ألا فاعل إلا الله تعالى، وأن كل موجود من خلق ورزق، وعطاء ومنع، وحياة وموت، وغنى وفقر، إلى غير ذلك مما ينطق عليه اسم، فالمنفرد بإبداعه واختراعه هو الهل عز وجل، لا شريك له فيه، وإذا انكشف لك هذا، لم تنظر إلى غيره، بل كان منه خوفك، وإليه رجاؤك، وبه ثقتك، وعليه اتكالك، فإنه الفاعل على الانفراد دون غيره، وما سواه مسخرون، لا استقلال لهم بتحريك ذرة من ملكوت السماوات والأرض.
فالله هو الأول، بالإضافة إلى الموجودات، إذ صدر منه الكل على ترتيبه واحدا بعد واحد، وهو الآخر بالإضافة إلى سير السائرين إليه فإنهم لا يزالون مترقين من منزل إلى منزل، إلى أن يقع الانتهاء إلى تلك الحضرة، فيكون ذلك آخر السفر، فهو آخر في المشاهدة أول في الوجود، وهو الباطل بالإضافة إلى العاكفين في عالم الشهادة، الطالبين لإدراكه بالحواس الخمس، وهو الظاهر بالإضافة إلى ما بطلبه في السراج الذي اشتعل في قلبه بالبصيرة، الباطنة النافذة في عالم الملكوت.
ولكن كيف الجمع بين التوحيد والشرع؟ ومعنى التوحيد " أن لا فاعل إلا الله تعالى "، ومعنى الشرع " إثبات الأفعال للعباد "؟
يقول الغزال إن الله فاعل، بمعنى أنه المخترع الموجد، ومعنى كون العبد فاعلا، أنه العمل الذي خلق فيه الإرادة، بعد أن خلق فيه العلم، فارتبطت القدرة بالإرادة والحركة بالقدرة ارتباط الشرط بالمشروط، وارتبط بقدرة الله ارتباط المعلول بالعلة، وارتباط المخترع بالمخترع " وما رميت إذ رميت، ولكن الله رمى "، فاسم الفاعل في الحقيقة لله، ولغيره بالمجاز.
ويقول إن لمقام التوكل على الله اعتقادا قاطعا، لا يستريب فيه، وهو أن يصدق تصديقا يقينا لا ضعف فيه ولا ريب، أن كل ما قسم الله تعالى بين عباده
(٣٢٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 320 321 322 323 324 325 326 327 328 329 330 ... » »»