* (فصل) * ومما يؤيد هذه الميزان عدم إنكار أكابر العلماء في كل عصر على من انتقل من مذهب إلى مذهب إلا من حيثما يتبادر إلى الأذهان من توهم الطعن في ذلك الإمام الذي خرج من مذهبه لا غير بدليل تقريرهم لذلك المنتقل على المذهب الذي انتقل إليه إذ المذاهب كلها عندهم طريق إلى الجنة كما سيأتي بيانه أواخر الأمثلة المحسوسة إن شاء الله تعالى فكل من سلك طريقا منها أوصلته إلى السعادة والجنة وكان الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى يقول ولم يبلغنا عن أحد من الأئمة أنه أمر أصحابه بالتزام مذهب معين لا يرى صحة خلافه بل المنقول عنهم تقريرهم الناس على العمل بفتوى بعضهم بعضا لأنهم كلهم على هدى من ربهم وكان يقول أيضا لم يبلغنا في حديث صحيح ولا ضعيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من الأمة بالتزام مذهب معين لا يرى خلافه وما ذلك إلا لأن كل مجتهد مصيب انتهى ونقل القرافي الاجماع من الصحابة رضي الله عنهم على أن من استفتى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وقلدهما فله بعد ذلك أن يستفتي غيرهما من الصحابة ويعمل به من غير نكير وأجمع العلماء على أن من أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء بغير حجة ومن ادعى دفع هذين الإجماعين فعليه الدليل انتهى وكان الإمام الزناتي من أئمة المالكية يقول يجوز تقليد كل من أهل المذاهب في النوازل وكذلك يجوز الانتقال من مذهب إلى مذهب لكن بثلاثة شروط الأول أن لا يجمع بينهما على وجه يخالف الاجماع كمن تزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود فإن هذه الصورة لم يقل بها أحد الثاني أن يعتقد في من يقلده الفضل ببلوغ أخباره إليه الثالث أن لا يقلد وهو في عماية من دينه كان يقلد في الرخصة من غير شرطها انتهى وقال القرافي يجوز الانتقال من جميع المذاهب إلى بعضها بعضا في كل ما لا ينتقض فيه حكم حاكم وذلك في أربعة مواضع أن يخالف الاجماع أو النص أو القياس الجلي أو القواعد انتهى قال الشيخ جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى وممن بلغنا أنه انتقل من مذهب إلى آخر من غير نكير عليه من علماء عصره الشيخ عبد العزيز بن عمران الخزاعي كان من أكابر المالكية فلما قدم الإمام الشافعي بغداد تبعه وقرأ عليه كتبه ونشر علمه ومنهم محمد بن عبد الله بن عبد الحكم كان على مذهب الإمام مالك فلما قدم الإمام الشافعي إلى مصر انتقل إلى مذهبه وصار يحث الناس على اتباعه ويقول يا إخواني هذا ليس بمذهب إنما هو شريعة كله وكان الإمام الشافعي يقول له سترجع إلى مذهب أبيك فلما مات الإمام الشافعي رجع كما قال الشافعي وكان يظن أن الإمام يستخلفه على حلقة درسه بعده فلما استخلف البويطي رجع ابن عبد الحكم وصحت فراسة الشافعي رضي الله تعالى عنه ومنهم إبراهيم بن خالد البغدادي كان حنفيا فلما قدم الشافعي بغداد ترك مذهبه واتبعه ومنهم أبو ثور كان له مذهب فتركه واتبع الشافعي ومنهم أبو جعفر بن نصر الترمذي رأس الشافعية بالعراق كان أولا حنفيا فلما حج رأى ما يقتضي انتقاله لمذهب الشافعي فتفقه على الربيع وغيره من أصحاب الشافعي ومنهم أبو جعفر الطحاوي كان شافعيا وتفقه على خاله المزني ثم تحول حنفيا بعد ذلك ومنهم الخطيب البغدادي الحافظ كان حنبليا ثم عمل شافعيا ومنهم ابن فارس صاحب كتاب المجمل في اللغة كان شافعيا تبعا لوالده ثم انتقل إلى مذهب
(٤٣)