للشارع في التخفيف والتشديد فإياك أن يشدد إمام مذهبك في أمر فتأمر به جميع الناس أو يخفف في أمر فتأمر به جميع الناس فإن الشريعة قد جاءت على مرتبتين لا على مرتبة واحدة كما مر في الميزان ولذلك صح لك القول بأن الله تعالى لم يكلف عباده بما يشق أبدا بل دعا صلى الله عليه وسلم على من شق على أمته بقوله اللهم من ولي من أمور أمتي شيئا فرفق بهم فارفق اللهم به ومن شق على أمتي فاشقق اللهم عليه ولم يبلغنا أنه صلى الله عليه وسلم دعا على من سهل عليهم أبدا بل كان يقول لأصحابه اتركوني ما تركتكم خوفا عليهم من كثرة تنزل الأحكام التي يسألونه عنها فيعجزون عن العمل بها فالعالم الدائر مع رفع الحرج دائر مع الأصل الذي ينتهي إليه أمر الناس في الجنة بخلاف الدائر مع الحرج فإنه دائر مع أمر عارض يزول بزوال التكليف فإن قلت فإذن من ألزم الناس بالتقيد بمذهب واحد فقد ضيق عليهم وشق عليهم فالجواب أنه ليس في ذلك مشقة في الحقيقة لأن صاحب ذلك المذهب لم يقل بإلزام الضعيف بالعزيمة بل جوز له الخروج من مذهبه إلى الرخصة التي قال بها غيره فرجع مذهب هذا الإمام إلى مرتبتي الشريعة فلا تضييق ولا مشقة على من التزم مذهبا معينا فإن لم تفهم الشريعة هكذا فما فهمت وإن لم تقرر مذاهب المجتهدين هكذا فما قررت ولا كان صح للمقلد اعتقاد أن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم بل كان يخالف قوله جنانه وذلك معدود من صفات النفاق وقد تقدم إنني ما وضعت هذه الميزان في هذه الطروس إلا انتصار المذاهب الأئمة ومقلديهم خلاف ما أشاعه عني بعض الحسدة من قوله إن من تأمل في هذه الميزان وجدها تحكم بتخطئة جميع المجتهدين قال لأن كل مجتهد لا يقول بقول الآخر بل يخطئه فيلزم من ذلك تخطئة كل مجتهد في تخطئته الآخر انتهى كلام هذا الحاسد فالجواب قد أجمع الناس على قولهم إن مجتهدا لا ينكر على مجتهد وإن كل واحد يلزمه العمل بما ظهر له أنه الحق وقد أرسل الليث بن سعد رضي الله عنه سؤالا كما مر إلى الإمام مالك يسأله عن مسألة فكتب إليه الإمام مالك أما بعد فإنك يا أخي إمام هدى وحكم الله تعالى في هذه المسألة هو مقام عندك انتهى وما ذلك إلا لاطلاع كل مجتهد على عين الشريعة الأولى التي يتفرع منها كل مذهب ولولا اطلاعه لكان من الواجب عليه الانكار ويحتمل أن من خطأ غيره من الأئمة إنما وقع ذلك منه قبل بلوغه مقام الكشف كما يقع فيه كثير ممن ينقل كلام الأئمة من غير ذوق فلا يفرق بين ما قاله العالم أيام بداءته وتوسطه ولا بين ما قاله أيام نهايته فتأمل في هذا الفصل فإنه ناطق بصحة هذه الميزان ومذاهب المجتهدين كلها لتقرير الشارع حكمهم باستناده إلى الاجتهاد والحمد لله رب العالمين * (فصل) * لا يلزم من تقيد كامل من الأولياء أو المجتهدين بالعمل بقول دون آخر أن يكون يرى بطلان ذلك القول الذي لم يعمل به فيحتمل أنه إنما ترك العمل به لكونه ليس من أهله سواء أكان ذلك في العزيمة أم الرخصة فإن كل كامل ومجتهد يرى استمداد سائر المذاهب من عين الشريعة سواء المذاهب المستعملة والمندرسة فكل قول لا يعمل به لعدم أهليته له فهو في حقه كالحديث المنسوخ وفي حق غيره كالحديث المحكم وأما غير الكامل من المقلدين فحكمه حكم من كان متعبدا بشريعة عيسى التي لم تبدل مثلا ثم نسخت بشريعة
(٣٦)