حديث فأعلمونا به لنأخذ به ونترك كل قول قلناه قبل ذلك أو قاله غيرنا فإنكم أحفظ للحديث ونحن أعلم به انتهى فإن قلت فإذا قلتم إن جميع مذاهب المجتهدين لا يخرج شئ منها عن الشريعة فأين الخطأ الوارد في حديث إذا اجتهد الحاكم وأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران مع أن استمداد العلماء كلهم من بحر الشريعة فالجواب أن المراد بالخطأ هنا هو خطأ المجتهد في عدم مصادفة الدليل في تلك المسألة لا الخطأ الذي يخرج به عن الشريعة لأنه إذا خرج عن الشريعة فلا أجر له لقوله صلى الله عليه وسلم كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد انتهى وقد أثبت الشارع له الأجر فما بقي إلا أن معنى الحديث أن الحاكم إذا اجتهد وصادف نفس الدليل الوارد في ذلك عن الشارع فله أجران أجر التتبع وأجر مصادفة الدليل وإن لم يصادف عين الدليل وإنما صادف حكمه فله أجر واحد وهو أجر التتبع فالمراد بالخطأ هنا الخطأ الإضافي لا الخطأ المطلق فافهم فإن اعتقادنا أن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم في جميع أقوالهم وما ثم إلا قريب من عين الشريعة وأقرب وبعيد عنها وأبعد بحسب طول السند وقصره وكما يجب علينا الإيمان بصحة جميع شرائع الأنبياء قبل نسخها مع اختلافها ومخالفة أشياء منها لظاهر شريعتنا فكذلك يجب على المقلد اعتقاد صحة مذاهب جميع المجتهدين الصحيحة وإن خالف كلامهم ظاهر كلام إمامه فإن الإنسان كلما بعد عن شعاع نور الشريعة خفى مدركه ونوره وظن غيره أن كلامه خارج عن الشريعة وليس كذلك ولعل ذلك سبب تضعيف العلماء كلام بعضهم بعضا في سائر الأدوار إلى عصرنا هذا فتجد أهل كل دور يطعن في صحة قول بعض الأدوار التي مضت قبله وأين من يخرق بصره في هذا الزمان جميع الأدوار التي مضت قبله حتى يصل إلى شهود اتصالها بعين الشريعة الأولى التي هي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن هو محجوب عن ذلك فإن بين المقلدين الآن وبين الدور الأول من الصحابة نحو خمسة عشر دورا من العلماء فاعلم ذلك فإن قلت فهل لهذه الميزان دليل في جعلها على مرتبتين من حضرة الوحي الإلهي قبل أن ينزل بها جبريل فالجواب نعم أجمع أهل الكشف الصحيح على أن أحكام الدين الخمسة نزلت من أماكن مختلفة لا من محل واحد كما يظنه بعضهم فنزل الواجب من القلم الأعلى والمندوب من اللوح والحرام من العرش والمكروه من الكرسي والمباح من السدرة فالواجب يشهد لمرتبة التشديد والمندوب يشهد لمرتبة التخفيف وكذلك القول في الحرام والمكروه وأما المباح فهو أمر برزخي جعله الله تعالى من جملة الرحمة على عباده ليستريحوا بفعله من جملة مشقة التكليف والتحجير ولا يكونوا فيه تحت أمر ولا نهي إذ تقيد البشر بأن يكون تحت التحجير على الدوام مما لا طاقة له به ولكن بعض العارفين قد قسم المباح أيضا إلى تخفيف وتشديد بالنظر للأولى وخلاف الأولى فيكون ذلك عنده على قسمين كالعزيمة والرخصة كما تقدم فإن قلت فما الحكمة في تخصيص نزول الأحكام الخمسة من هذه الأماكن المتقدمة فالجواب الحكمة في ذلك أن كل محل يمد صاحبه بما فيه فيكون من القلم الأعلى نظرا إلى التكاليف الواجبة فيمد أصحابها بحسب ما يرى فيها ويكون من العرش نظرا إلى المحظورات فيمد أصحابها بالرحمة لأن العرش مستوى الاسم الرحمن فلا ينظر إلى أهل حضرته إلا بعين
(٣١)