فيها بالتشديد لا يجوز له العمل بقول غيره في مضايق الأحوال والضرورات فكانت المشقة تعظم على الأمة بذلك فالحمد لله الذي جاءت شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على أكمل حال بحكم الاعتدال فلا يوجد فيها شئ فيه مشقة على شخص إلا ويوجد فيها شئ آخر فيه التخفيف عليه إما حديث أو أثر أو قول إمام آخر أو قول في مذهب ذلك المشدد مرجوح يخفف عنه فإن قلت فما الجواب أن نازعنا أحد فيما قلناه من المقلدين الذين يعتقدون أن الشريعة جاءت على مرتبة واحدة وهي ما عليه إمامه فقط ويرى غير قول إمامه خطأ يحتمل الصواب قلنا له الجواب إننا نقيم عليه الحجة من فعل نفسه وذلك أننا نراه يقلد غير إمامه في بعض الوقائع فنقول له هل صار مذهب إمامك فاسدا حال عملك بقول غيره ومذهب الغير صحيحا أم مذهبك باق على صحته حال عملك بقول غيره ولعله لا يجد له جواب سديدا يجيبك به أبدا على وجه الحق * وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله تعالى يقول لا يكمل لمؤمن العمل بالشريعة كلها وهو متقلد بمذهب واحد أبدا ولو قال صاحبه إذا صح الحديث فهو مذهبي لترك ذلك المقلد الأخذ بأحاديث كثيرة صحت عند غير إمامه وهذا من ذلك المقلد عمى في البصيرة عن طريق هذه الميزان وعدم فهمه لكلام إمامه رضي الله تعالى عنه إذ لو كان إمامه رضي الله تعالى عنه يقول من نفسه الشريعة أنه أدرى بشأن نصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل أحد لما كان يقول رضي الله عنه إذا صح الحديث أي بعدي فهو مذهبي والله أعلم انتهى وهو كلام نفيس فإن الشريعة إنما تكمل أحكامها بضم جميع الأحاديث والمذاهب بعضها إلى بعض حتى تصير كأنها مذهب واحد ذو مرتبتين وكل من اتسع نظره وتبحر في الشريعة وأطلع على أقوال علمائها في سائر الأدوار وجد الشريعة منسوجة من الآيات والأخبار والآثار سداها ولحمتها منها وكل من أخرج حديثا أو أثرا أو قولا من أقوال علمائها عنها فهو قاصر جاهل ونقص علمه بذلك وكان علمه كالثوب الذي نقص من قيامه أو لحمته سلك أو أكثر بحسب ما يقتضيه الحال فالشريعة الكاملة حقيقة هي جميع المذاهب الصحيحة بأقوالها لمن عقل واستبصر فضم يا أخي جميع أحاديث الشريعة وآثارها وأقوال علمائها إلى بعضها بعضا وحينئذ يظهر لك كمال عظمة الشريعة وعظمة هذه الميزان ثم انظر إليها بعد الضم تجدها كلها لا تخرج عن مرتبتي تخفيف وتشديد أبدا وقد تحققنا بهذا المشهد ولله الحمد من سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة فإن قلت فما أصنع بالأحاديث التي صحت بعد موت إمامي ولم يأخذ بها فالجواب الذي ينبغي لك أنك تعمل بها فإن إمامك لو ظفر بها وصحت عنده لربما كان أمرك بها فإن الأئمة كلهم أسرى في يد الشريعة كما سيأتي بيانه في فصل تبريهم من الرأي ومن فعل مثل ذلك فقد حاز الخير بكلتا يديه ومن قال لا أعمل بحديث إلا أن أخذ به إمامي فإنه خير كثير كما عليه كثير من المقلدين لأئمة المذاهب وكان الأولى لهم العمل بكل حديث صح بعد إمامهم تنفيذا لوصية الأئمة فإن اعتقادنا فيهم إنهم لو عاشوا وظفروا بتلك الأحاديث التي صحت بعدهم لأخذوا بها وعملوا بها وتركوا كل قياس كانوا قاسوه وكل قول كانوا قالوه وقد بلغنا من طرق صحيحة أن الإمام الشافعي أرسل يقول للإمام أحمد بن حنبل إذا صح عندكم
(٣٠)