مجلة تراثنا - مؤسسة آل البيت - ج ٣٧ - الصفحة ٢٤١
وتقريب إلى الفوز بنعيم المعاد، وتحصيل المراد.
من جهة دلالة ذلك على عدم قابلية هذه الحياة، ودناءة مرتبة الدنيا، وعدم لياقتها، وأنها قنطرة إلى الآخرة.
ولذا قالوا: (الدنيا ساعة، فأجعلها طاعة).
فكأنهم عليهم السلام برضاهم وتسليمهم بمنزلة من خيرة الله تعالى بين البقاء في الدنيا والرحيل، فاختار الرحيل، وأسرع عمدا، وعانق الموت رغبة عن الدنيا، وشوقا إلى الآخرة (11).
وبهذا (12) يجاب عن إشكال:
إنهم عليهم السلام إذا كانوا يعلمون بأوقات وفياتهم، وأسبابها، فلم لم يحترزوا عنها؟!
وكيف باشروها، وحضروها مع قوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) (الآية (159) من سورة البقرة (2))؟!... (13)

(١١) وقد ذكر هذا في الروايات بعنوان: (اختيار لقاء الله)..
كما في حديث عبد الملك بن أعين، عن أبي جعفر عليه السلام، قال:
أنزل الله تعالى النصر على الحسين عليه السلام، حتى كان بين السماء والأرض.
ثم خير النصر، أو لقاء الله.
فاختار لقاء الله تعالى.
الكافي - الأصول - ١ / ٢٦٠ باب أن الأئمة عليهم السلام يعلمون متى يموتون، وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم، الحديث ٨.
(١٢) هذا إشارة إلى الوجه الأخير، بل إلى الكتاب كله، لأن الوجوه السابقة تصلح - أيضا - للإجابة عن هذا الإشكال، وقد تقدم منا مقال مفصل تضمن إجابة أوسع عن الإشكال، فراجع.
(١٣) في مخطوطة المصنف هنا بياض بمقدار نصف صفحة ولعل المصنف أراد تفصيل الإجابة عن ذلك الإشكال الذي تحدثنا نحن بالتفصيل عن أصله وكذا عن الرد عليه في مقال مستقل بعنوان: (علم الأئمة عليهم السلام بالغيب) وقد طبع في الصفحات ٧ - ١٠٧ من هذا العدد من هذه المجلة الموقرة.
ومما ذكر - في هذه الرسالة، وفي المقالة - ظهر ما في كلام السيد الطباطبائي - رضي الله عنه - حول علم النبي والأئمة عليهم الصلاة والسلام بالغيب في رسالته المفردة عن الموضوع، حيث قال بعد تفريقه بين علم الله وبين علم الأئمة، بالأصالة في الأول والاستقلالية به، والفرعية في الثاني والتبعية به، ما نصه:
إن من المعلوم أن الإنسان الفعال بالعلم والإرادة إنما يقصد ما يتعلق به علمه من الخير والنفع، ويهرب مما يتعلق به علمه من الشر والضرر.
فللعلم أثر في دعوة الإنسان إلى العمل، وبعثه نحو الفعل والترك بالتوسل بما ينفعه في جلب النفع أو دفع الضرر.
وبذلك يظهر أن علم الإنسان بالخير، وكذا الشر والضرر في الحوادث المستقبلة إنما يؤثر أثره لو تعلق بها العلم من جهة إمكانها لا من جهة ضرورتها.
وذلك كأن يعلم الإنسان أنه لو حضر مكانا كذا في ساعة كذا من يوم كذا قتل قطعا، فيؤثر العلم المفروض فيه ببعثه نحو دفع الضرر، فيختار ذلك الحضور في المكان المفروض تحرزا من القتل.
وأما إذا تعلق بالضرر - مثلا - من جهة كونه ضروري الوقوع، واجب التحقق، كما إذا علم أنه في مكان كذا في ساعة كذا من يوم كذا مقتول لا محالة، بحيث لا ينفع في دفع القتل عنه عمل، ولا تحول دونه حيلة، فإن مثل هذا العلم لا يؤثر في الإنسان أمرا ببعثه إلى نوع من التحرز والاتقاء، لفرض علمه بأنه لا ينفع فيه شئ من العمل، فهذا الإنسان مع علمه بالضرر المستقبل يجري في العمل مجرى الجاهل بالضرر.
إذا علمت ذلك، ثم راجعت الأخبار الناصة على أن الذي علمهم الله تعالى من العلم بالحوادث لا بداء فيه ولا تخلف، ظهر لك اندفاع ما ورد على القول بعلمهم بعامة الحوادث من:
(أنه لو كان لهم علم بذلك لاحترزوا مما وقعوا فيه من الشر، كالشهادة قتلا بالسيف، وبالسم، لحرمة إلقاء النفس في التهلكة)!
وجه الاندفاع: أن علمهم بالحوادث علم بها من جهة ضرورتها، كما هو صريح نفي البداء عن علمهم.
والعلم الذي هذا شأنه لا أثر له في فعل الإنسان ببعثه إلى نوع من التحرز، وإذا كان الخطر بحيث لا يقبل الدفع بوجه من الوجوه، فالابتلاء به وقوع في التهلكة، لا إلقاء في التهلكة!
قال تعالى: (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم).
رسالة في علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليه السلام بالغيب، للسيد محمد حسين الطباطبائي، تحقيق رضا الأستادي، طبع مع الرسائل الأربعة عشر، جماعة المدرسين - قم 1415 ه‍.
أقول: وجوه النظر فيه عديدة، هي:
1 - عدم فرضه أن ما وقعوا فيه، مما عده الأغيار تهلكة وشرا وضررا، إنما هو في اعتبار الأئمة عليهم السلام خير وبر ورحمة، كما هو عند الأخيار كافة.
2 - فرضه أن ما جرى على الأئمة من قبيل ضروري الوقوع، واجب التحقق، وأنه لا بداء فيه، يقتضي الجبر لعدم تمكنهم من التخلص منه.
وهو مناف لصريح الروايات الدالة على اختيارهم لما وقع، وأنهم لو شاؤوا لم يقع.
3 - وفرضه أن العالم بالضرر يجري في العمل مجرى الجاهل، ينافي إثبات العلم لهم، فإنه لو فقد أثره لم يفرق في ذلك في مقام العمل بينه وبين الجاهل، فمحاولة فرضه وإثباته لغو لا محالة.
4 - وفرضه أن علمهم لا بداء فيه، مخالف للنصوص الدالة على أنهم يختارون ذلك رغبة في لقاء الله، ورفضا للحياة الدنيا، مع تخييرهم في ذلك.
5 - وفرضه أن ما جرى عليهم وقوع في التهلكة، ينافي إصرارهم عليهم السلام على ما أقدموا عليه ورفضهم لكل أنواع التحذيرات والتوسل بهم لدفعهم على الامتناع، كما أعلنت عنها السيرة الشريفة لكل منهم.
6 - وأما استشهاده بالآية، فغير مرتبط بالمقام، لأنها:
أولا: في مقام تبكيت المنافقين الذين قد أهمتهم أنفسهم والذين يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية.
فأين هؤلاء من الذين طلبوا الشهادة، واستيقنت بها أنفسهم، وأعلنوها (فوزا) مقسمين (برب الكعبة)؟!
وثانيا: إن ما دل من الأخبار الصحيحة، والمشهورة، والسيرة الموثوقة، تخصص الأئمة عليهم السلام بكون موتهم باختيارهم كما عنون لذلك ثقة الإسلام الكليني في الباب الذي عنونه ب‍: (أن الأئمة يعلمون متى يموتون، وأن ذلك باختيارهم).
وبالله التوفيق وهو المستعان.
(٢٤١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 236 237 238 239 240 241 244 245 246 247 248 ... » »»
الفهرست