فالتراث ليس أمرا ساكنا ميتا أفرزته هزائم الأمة، وإنما هو تلك الحيوية المتدفقة في وجدان الأمة، فتارة تتكشف فعاليته في روح المقاومة العنيدة، حين يتعرض المجتمع الإسلامي لعدوان غادر من الكفر، وتارة أخرى في تيارات التجديد والإصلاح، وثالثة في ما يبرز من مواقف وإبداعات، عندما يسعى المجتمع لمواكبة العصر، ويحاول الاستجابة للتحديات الكبرى، فلا يجد سبيل أمامه للتغلب على هذه التحديات، سوى العودة إلى الذات، والذات لا تتحق إلا بالتراث، به تتحقق، وبه تتكشف، وبه تظل قادرة على مقاومة محاولات التذويب، والتشويه، والتدجين، والتهجين.
من هنا يتبين أن النهضة تتقوم باكتشاف الذات وتحقيق الهوية أولا وقبل كل شئ، لكي تتحدد المعالم المميزة لشخصية الأمة، فتتلقى ما ينسجم وبنيتها الخاصة، فيما تلفظ وتطرد كل ما من شأنه أن يفتت هذه البنية ويزعزع أركانها.
إن ما تنفرد به الأمة وتفتخر به كإرث حضاري تتفوق به على أمم أخرى، هو تلك العناصر الحية الفاعلة الممتدة زمانيا، من ما أنجزته من تراث، في مراحلها التاريخية المختلفة، وليس ما أنجز لحاجات زمنية خاصة، وأفرزته دواع تاريخية معينة، ولم يقو على الامتداد الزمني والحياة في عصور أخرى، فما ولد في أروقة قصور السلاطين من أدب مبتذل منحل، وما كتب في أفياء البلاط من فقه سلطاني يمجد الظلم وينفي الحق، لا يعبر عن هوية الأمة، ولا يعكس حقيقة شخصيتها.
وربما يتوهم البعض فيحسب أن هذا الكلام يعني الانغلاق والتقوقع على الذات، وعدم الاستفادة من معطيات وتجارب الأمم الأخرى، خصوصا في هذا العصر، الذي خطا فيه الإنسان الغربي خطوات كبيرة، بل حقق قفزات نوعية في التقنية، واكتشاف قوانين الطبيعة، ولم يعد بإمكان أي مجتمع أن يستغني عن هذه المكتشفات، ويعيش لوحده.