إن فكرة السقيا لم تفارقه، فكرة أن يستشهد الحسين (ع) وهو عطشان ويمنع من قطرة ماء، فتتسع القطرة إلى السحاب، وإلى المطر الغزير ينهمر لا على قبر عطاشى كربلاء فحسب، بل تتسع لتشمل كل أضرحة أجداده الأئمة الأطائب (ع).
هذه الكفرة تجدها قوية السيطرة عليه، حتى لتكون العمود الفقري للقصيدة كلها، بين رفعة القبور المشبهة بالروابي، وبين السقي الذي ينهمر عليها من السحاب ومن دموع العيون، فإن لم يستجب السحاب لملتمس الشاعر فإن السراب سيستحيل ماء يتقطع على تلك القبور:
فلو بخل السحاب على ثراها * لذابت فوقها قطع السراب يجب أن ننتبه هنا إلى المقابلة الذكية بين السحاب والسراب، لا من حيث استحالة السراب إلى سحاب تولها بأهل البيت (ع) فحسب، وإنما أيضا من حيث أن المسافر - آنذاك - بين هذه المشاهد المشرفة يطالع السراب أمامه وهو يطوي الفيافي والقفار فيأخذه الإحساس الرهيق - إن كان من أهله - إلى أمنية مستحيلة، أن يتحول السراب المشعر بالعطش والموحي به إلى سحاب يبل الثرى ويسقي القبور المطهرة.
وتبقى فكره السقيا والظمأ تجول في جنبات مشاعر الشاعر:
سقاك، فكم ظمئت إليك شوقا * على عدواء داري واقترابي فالسحاب يسقي، والسراب يتقطع سحابا ومطرا عليها، والشاعر ظمئ إليها شوقا في حالي قربه وبعده، وانظر إلى لفظة " عدواء " وما فيها من اللآواء إشارة إلى ألم البعد والظمأ لزيادتها، والغلواء في حبها والتبرك بها.
ثم انظر إلى اللفتة الذكية بين بعد الدار واقتراب الشاعر، فهو لم يقل إنه بعيد عن تلك القبور، فهو دائما قريب منها، وداره هي التي تبعد عنها.
وأما قربه فيتمثل في زيارته لها، وفي حمله معه دائما شيئا من ترابها:
تجافي يا جنوب الريح عني * وصوني فضل بردك عن جنابي ولا تسري إلي مع الليالي * وما استحقبت من ذاك التراب وذاك التراب أيضا ظمآن، فالظمأ حس في كل ما يحيط بالشاعر، ويبلغ الظمأ بالتراب المقدس حد أن يقاد له الماء والسحاب:
قليل أن تقاد له الغوادي * وتنحر فيه أعناق السحاب