وقد بلغ ما أفاضه الوصي عليه السلام من خطبه ورسائله وحكمه وأدعيته وكلماته القصار - التي كان النهج بالنسبة إليها كما قلنا قليل من كثير - الأصقاع والأسماع، مع أن بني أمية قد بالغوا في إمحاء مطلق آثاره عليه السلام وإطفاء نوره. وليس ذلك إلا ما وعدنا الله سبحانه من قضائه المحتوم المبرم بقوله عز من قائل: " يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون " (9).
وفي روضات الخونساري في ترجمة الخليل بن أحمد البصري صاحب العروض وأستاذ سيبويه: إنه - أي الخليل - سئل عن فضيلة علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال:
" ما أقول في حق من أخفى الأحباء فضائله من خوف الأعداء، وسعى أعداؤه في إخفائها من الحسد والبغضاء، وظهر من فضائله مع ذلك كله ما ملأ المشرق والمغرب " (10).
وقال الفخر الرازي في " مفاتيح الغيب " المشتهر بالتفسير الكبير في مسألة الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم من مسائل تفسير الفاتحة: " يدل إطباق الكل على أن عليا كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وأن عليا عليه السلام كان يبالغ في الجهر بالتسمية، فلما وصلت الدولة إلى بني أمية بالغوا في المنع من الجهر سعيا في إبطال آثار علي عليه السلام - إلى قوله -: إن الدلائل العقلية موافقة لنا، وعمل علي بن أبي طالب عليه السلام معنا، ومن اتخذ عليا إماما لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه " (11).
ثم لا يخفى على ذوي العقول الناصعة الرصينة أن توهم كون النهج من منشآت الرضي أسنده إلى الإمام علي عليه السلام، رأي فائل موهون أوهن من بيت العنكبوت.
أرأيت أن من بلغ في كماله إلى ذلك الحد من شاهق المعرفة والبلاغة ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير يسنده إلى غيره؟! نعم، لا يسنده إلى غيره إلا من سفه نفسه، وحاشاه عن ذلك.