حين يعنى بتدوين تاريخ أمة وقد ظهرت فيها الاختلافات، وتوزعت أبناءها المذاهب، وتغلبت الأهواء التي تفرض هيمنتها في صياغة أفكار الناس ورؤيتهم للأحداث، عندئذ أين سيقف التاريخ؟
هل سيكون بعيدا عن معترك الميول والأهواء، منفصلا عن قيود الزمان والمكان ليسجل الأخبار والأحداث كما هي تماما، وبكامل أسبابها ومقدماتها وتفاصيلها وما خلفته من آثار، يسجلها كما هي قبل أن تنفعل معها الميول والأهواء؟
لا شك أن هذا هو الأمل المنشود، وهو الذي تقتضيه الأمانة للتاريخ وللحقيقة..
ولكن لا شك أيضا أن التاريخ لم يكتب في الفضاء، ولا كان المؤرخ يستقل بساطا سحريا يقله فوق آفاق زمانه ومكانه..
إنه يكتب من على الأرض، وفي زمان ما ومكان ما..
وإنه يكتب ما يسمع، لا ما يرى..
وإنما يحدثه رجال لهم حيال الأحداث مواقف وميول، فهو لم يسمع في الحقيقة حدثا مجردا، وإنما سمع الحدث ممزوجا به انفعالات الناقلين..