التوحيد والشرك في القرآن - الشيخ جعفر السبحاني - الصفحة ٨١
والآخرة كلها، والمتصرف فيها فلو نودي موجود آخر بهذا الوصف تماما أو بعضا فالنداء عبادة له وشرك فيها والمنادي مشرك بلا كلام.
وعلى ذلك فلو خضع واحد منا أمام موجود زاعما بأنه مستقل في ذاته أو فعله لصار الخضوع عبادة، بل لو طلب فعل الله سبحانه من غيره كان هذا الطلب نفسه عبادة وشركا، فإن الطلب في هاتيك الموارد لا ينفك عن الخضوع، فالذي يجب التركيز عليه هو أن نعرف ما هو فعل الله سبحانه، ونميزه عن فعل غيره حتى لا نقع في ورطة الشرك عند طلب شئ من الأنبياء والأولياء وغيرهم من الناس فنقول:
إن من أقسام الشرك هو أن نطلب فعل الله من غيره، والمعلوم أن فعل الله ليس هو مطلق الخلق والتدبير والرزق سواء أكان عن استقلال أم بإذن الله، لأنه سبحانه نسبها إلى غيره في القرآن، بل هو القيام بالفعل مستقلا من دونه استعانة بغيره، فلو خضع أحد أمام آخر بما أنه مستقل في فعله سواء أكان الفعل فعلا عاديا كالمشي والتكلم، أم غير عادي كالمعجزات التي كان يقوم بها سيدنا المسيح - عليه السلام - (1) مثلا، يعد الخضوع عبادة للمخضوع له.
توضيحه: أن الله سبحانه غني في فعله، كما أنه غني في ذاته عما سواه فهو يخلق ويرزق ويحيي ويميت من دون أن يستعين بأحد (2) أو يستعين في خلقه بمادة

(١) كما في الآية ٤٩ من آل عمران: (إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) (٢) نعم قد سبق منا عند البحث عن التوحيد في الربوبية أن كون الله سبحانه لا يستعين - في فعله - بأحد لا يلازم أن يقوم بنفسه بكل الأمور، وبأن تكون ذاته مصدرا للخلق والرزق والإحياء والإماتة من دون أن يتسبب في كل ذلك بالأسباب، بل معناه أن يكون في فعله - سواء في أفعاله المباشرية أو التسبيبية - مستغنيا عن غيره، وإن كانت أفعاله جارية عبر نظام الأسباب والعلل. فراجع كتابنا مفاهيم القرآن الجزء الأول - الفصل الثامن.
(٨١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 ... » »»