التحقيق في الإمامة و شؤونها - عبد اللطيف البغدادي - الصفحة ٩٢
وإنا شجرة النبوة، وبيت الرحمة، ومفتاح الحكمة، ومعدن العلم، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة وموضع سر الله ووديعته، والأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال (1)، وحرم الله الأكبر، وبيت
(١) الأمانة المعروضة على السماوات ومعناها:
قول الإمام ~ والأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال، أي نحن وإمامتنا الأمانة التي عرضت على السماوات، وقد أشار بذلك إلى قول الله عز وجل " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا " [الأحزاب / ٧٣].
والأمانة معناها شيء يودع عند الغير ليحتفظ به ثم يرده إلى من أودعه عنده، أو ليقضي به مأربه ثم يرجعه إليه، فهناك أناس يؤدون الأمانة، أي يرجعونها إلى أهلها كما هي، وهناك أناس يخونونها.
هذا معنى الأمانة لغة، وقد يطلق لفظ " الأمانة " على الدين الذي شرعه الله عز وجل لعباده وبعث به رسله وأنبياءه، وعلى هذا يكون الدين أمانة الله عند عباده، ولكن العباد منهم من يحافظ على دينه ويؤديه كما شرعه الله عز وجل ومنهم من يخونه بأنواع الخيانات، إما أن يأخذ منه ما تهواه نفسه، وما ينفعه في دنياه فقط، وإلى أمثال هؤلاء يشير القرآن المجيد بقوله تعالى " أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون " [البقرة / ٨٦]، وإما أن يخون دينه بارتكاب أنواع المعاصي والسيئات، وأنواع الظلم والجرائم وترك الواجبات والفرائض بلا ندم ولا توبة وإلى أمثال هؤلاء يشير قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون " [الأنفال / ٢٨].
ومعلوم أن هذه الخيانات - بكل أنواعها - تعود أخيرا بالضرر على الخائنين أنفسهم، فهم يخونون أنفسهم قبل أن يخونوا الله ورسوله، وإلى ذلك يشير القرآن المجيد بقوله تعالى: " ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما " [النساء / ١٠٨]، وقال تعالى: " علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا = = عنكم " [البقرة / ١٨٨]، وإلى مجموعة هذه الخيانات يشير قوله تعالى مخاطبا نبيه (ص): " وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم " [الأنفال / ٧٢]، نعم أمكن الله منهم فأخزاهم وأذلهم في الدنيا، واستحقوا العذاب الأليم في الآخرة، فالذين يؤدون أمانة الدين ويقيمونه كما هو هم الأعزاء في الدارين، والذين يخونون دينهم ولا يؤدوه كما هو هم الأدلاء في الدارين، وفي طليعة من حملهم الله دينه، وأدوه كما هو من غير تبديل ولا تغيير - في هذه الأمة - هم نبينا وأهل بيته الأئمة الأطهار (ع).
فهم إذن الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا.
فالأمانة تطلق على الدين، وتطلق أيضا الأمانة - بالخصوص - على الولاية الإلهية التي جعلها الله تعالى - في تشريعاته الحكيمة - بعد ولايته جل وعلا في هذه الأمة لنبيه محمد (ص) وبعده لعلي أمير المؤمنين والأئمة الطاهرين من أهل بيته.
فهم إذن الأمانة، أي هم أهل الولاية والإمامة العامة بعد النبي (ص) قال تعالى " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " [المائدة / ٥٥].
وقد أجمع المفسرون أن هذه الآية الكريمة نزلت في علي أمير المؤمنين حينما تصدق بخاتمه في الصلاة وهو راكع، نزلت فيه، وهي جارية في أبنائه المعصومين من بعده ولكن هذه الولاية حملها بعض الناس ظلما وجهلا وإليهم تشير الآية المبحوث عنها " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ".
أما سائر الناس فمنهم من تبع أهل ولاية الله الحقة من رسل وأنبياء وأئمة، ومنهم من تبع الإنسان الظلوم الجهول، وحساب الجميع والقضاء فيما بينهم بيد الله يوم القيامة يجازي كلا بما يستحق من الجزاء، قال تعالى " إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " [يونس / ٩٤]، ولزيادة الإيضاح، والتأكد راجع إذا شئت (البحار) ج ٢٣ ص ٢٧٣ - ٢٨٣ باب: أن الأمانة في القرآن الإمامة، وراجع تفسير الآية، والتي بعدها في آخر سورة الأحزاب: في كتاب (الميزان) في تفسير القرآن ج 16 ص 370 - 376.