في إدراكه الواعي لأهمية ما يسمى " بالشك المنهجي " عند البدء في تناول موضوع علمي بالبحث والدراسة. فهذا الأسلوب يمكن أن يستخدمه الباحث الناضج بإرادته، رغبة منه في اختيار معرفته وعدم تأثر تفكيره بالأخطاء المألوفة التي تشوب الثقافة السائدة في مجتمعه أو التي يقرأها في الكتب. وهذا النوع من الشك يعتبر في حقيقة الأمر أحد عناصر اليقين في تحصيل الحقيقة العلمية وترجيح صحتها، وهو يختلف عما يعرف بالشك الحقيقي أو المطلق الذي يزاول لذاته ويغيره إرادة من صاحبه، فيعيش في حال ريب متكاسل يبدأ فيها وينتهي بالشك وعدم الثقة في بلوغ أعلى درجة من الصدق واليقين.
وهناك بين الباحثين من يرى في الشك المنهجي القوة الموقظة في تاريخ النشاط العقلي، ويرجع إليه كل نزوع إلى النقد الصحيح وحرية البحث وعبقرية الاكتشاف في ماضي المعرفة وحاضرها. فمثل هذا الشك العلمي منهج يتبع عند اختيار المعرفة أو امتحانها أو عند العمل على كسبها، وقد عرفته الدراسات العقلية الحديثة وأيده التحليل السيكولوجي الحديث. ذلك أن الاعتقاد والانكار في رأي الكثيرين من علماء النفس مظهران لحال نفسية واحدة في رأي الكثيرين من علماء النفس مظهران لحال نفسية واحدة. فالضد الصحيح للاعتقاد والانكار في رأي الكثيرين من علماء النفس مظهران لحال نفسية واحدة. فالضد الصحيح للاعتقاد هو الشك والبحث وليس الإنكار، وإذا صح هذا كان الشك بهذا المعنى ضروريا لكل معرفة علمية صحيحة في مجال السلوك أو البحث التجربي أو النظري، بل أن اكتساب المعرفة وتصحيح المعلومات الصحيحة يقدم على اتجاه عقلي يعبر عنه بالشك في بادئ الأمر.
ولعل هذه السمة المنهجية في تكفير ابن الهيثم هي التي جعلت عالما رياضيا معاصرا مثل الدكتور علي مصطفى مشرفة يقول عن كتاب " حل شكوك إقليدس "، الذي نحن بصدد الحديث عنه، " إن المطلع على كتاب ابن الهيثم في حل شكوك إقليدس يلمس دقة المؤلف في التفكير وتعمقه في البحث واستقلاله في الحكم، كما يتضح له صحة إدراك ابن الهيثم لمكانه الهندسة الأقليدية من العلوم الرياضية على أنها دراسة منظمة للعلامات والمقادير المكانية من ناحية كونها علاقات أو مقادير دون نظر إلى ما يمكن أن تدل عليه من موجودات. فابن الهيثم في هذا الكتاب رياضي بحت بأدق ما يدل عليه هذا الوصف من معنى وأبلغ ما يصل إليه من حدود ".
كان طبيعيا أن يؤلف ابن الهيثم بعد ذلك رسالة خاصة بدراسة نظرية الخطوط المتوازية ضمنها محاولته لبرهان المسلمة الخامسة لأقليدس بمفاهيم جديدة تتناول الحركة والحس والتمييز، وصاغها في منطوق جديد مؤداه " إن الخطين المتقاطعين لا يوازيان خطا واحدا ". وتفهم عمر الخيام مفاهيم ابن الهيثم وانطلق منها إلى برهان جديد مستنتجا أن مجموع زوايا أي شكل رباعي تساوي 360 درجة، وأن مجموع زوايا أي مثلث تساوي قائمتين. ثم جاء بعد ذلك نصير الدين الطوسي في مطلع القرن الثالث عشر الميلادي وأظهر براعة فائقة في معالجة المسلمة الخامسة من مسلمات إقليدس وقدم برهانا جديدا على أن مجموع زوايا المثلث تساوي زاويتين قائمتين، فتداولته كتب