منها، ولم يكن من منهجنا البقاء فيها، بل مضينا معجلين على أمل العودة إليها يوما من الأيام.
هذه أبهر بين أيدينا، ولعل هذا المنزل أو ذاك هو الذي أوى إليه ابن عساكر، ولعله تحت هذا السقف أو بين هاتيك الجدران سمع من أبي قاسم الحمامي، ولعل هذه الحجرة أو تلك هي التي سهر فيها الليل مشدودا إلى كتبه، منكبا على قراطيسه، ولعل هذه النافذة أو تلك هي التي سرى منها صوت هبة الله بن أبي الهيجا منشدا إياه الشعر.
من دمشق، ومن بساتين غوطتها المتألقة بأزهار المشمش. من هناك إلى هنا إلى أبهر، إلى بساتينها المشعة بأزهار اللوز والفستق، كم من أطياف تموج في الضمير وتمور في الخاطر. هذه الأطياف التي حركها تذكر ابن عساكر صاحب تاريخ دمشق الكبير، وهو يحط رحله هنا على باب من هذه الأبواب.
ومضت بنا السيارة لا تلوي على شئ، وهاجني الحنين إلى الماضي البعيد أولا إلى تلك العهود، عهود علمائنا وهم يجوبون وطنهم الكبير، فينزلون أينما نزلوا على دور يرون أنها دورهم، وعلى أهل يرون أنهم أهلهم.
ثم الحنين إلى دمشق وإلى السكك التي طالما جلت فيها طفلا ويانعا، والتي تذكرني بها الساعة سكك مدينة أبهر، وكم وددت لو جلت فيها ومشيت حيث مشى ابن عساكر، في الدروب الضيقة والأزقة المتكاثفة، فأنبعث من ذكراه جلدا على الصعاب قويا على الشدائد.
وعن لي الشعر في تلك الأويقات فلم أجد أفضل من أن أردد شعر الشاعر العربي عبد الله بن خليفة الطائي من شعراء أوائل القرن الأول الهجري حيث مر هو الأخر بأبهر فكان من ذكراه لها أن قال:
كأني لم أركب جوادا لغارة - ولم أترك القرن الكمي مقطرا ولم أعترض بالسيف خيلا مغيرة - إذا النكس مشى القهقرى ثم جرجرا