لا يشبه أن يكون أخرجه إلى الربذة باختياره، وكيف يظن عاقل أن أبا ذر يحب أن يختار الربذة منزلا مع جدبها وقحطها وبعدها عن الخيرات؟ ولم يكن بمنزل مثله.
فأما قوله: (إنه أشفق عليه من أن يناله بعض أهل المدينة بمكروه، من حيث كان يغلظ له القول) فليس بشئ يعول عليه لأنه لم يكن في أهل المدينة إلا من كان راضيا بقوله، عاتبا بمثل عتبه، إلا أنهم كانوا بين مجاهر بما في نفسه، ومخف ما عنده، وما في أهل المدينة إلا من رثى مما حدث على أبي ذر واستفظعه، ومن رجع إلى كتب السير عرف ما ذكرناه.
وأما قوله: (إن عمر أخرج من المدينة نصر بن حجاج) فما بعد ما بين الأمرين، وما كنا نظن أن أحدا يسوي بين أبي ذر وهو وجه الصحابة وعينهم، ومن أجمع المسلمون على توقيره وتعظيمه، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدحه من صدق اللهجة بما لم يمدح به أحدا، وبين نصر ابن الحجاج الحدث الذي كان خاف عمر من افتتان النساء به وبشبابه، ولاحظ له في فضل ولا دين، على أن عمر قد ذم بإخراجه نصر بن الحجاج من غير ذنب كان منه، وإذا كان من أخرج نصر بن الحجاج مذموما، فكيف بمن أخرج مثل أبي ذر رحمه الله تعالى؟!
فأما قوله: (إن الله تعالى والرسول صلى الله عليه وآله ندبا إلى خفض الجناح، ولين القول للمؤمن والكافر، فهو كما قال، إلا أن هذا أدب كان ينبغي أن يتأدب به عثمان في أبي ذر، ولا يقابله بالتكذيب، وقد قطع الرسول صلى الله عليه وآله على صدقه، ولا يسمعه مكروه الكلام، وإنما هو نصح له، وأهدى إليه عيوبه، وعاتبه على ما لو نزع عنه لكان خيرا له في الدنيا والآخرة، وهذه جملة كافية.