رفع إبراهيم القواعد منه وإسماعيل وطهراه للطائفين والعاكفين والركع السجود، فلم يلبث أن صار مع الزمن مثوى لأوثان ممسوخة شتى، لكل قبيلة من العرب وثنها تحج إليه وتطيف به، وترفع إليه الدعاء وتقدم القرابين..
وغير بعيد من غار حراء، هجعت مكة تجتر ذكريات مجدها الديني الغابر طوته وثنية عمياء، وتساورها من حين إلى حين رجفة من قلق الوعي، لا تلبث أن تهمد تحت وطأة الكابوس الجاثم، لا تحسب حسابا لهذا المختلي في غار حراء، وقد ألفت أن تراه ينسحب من زحام المجتمع المكي، عازفا عن تلك الأوثان التي يعبدها قومه، لأنهم وجدوا آباءهم لها عابدين.
وماذا على القوم أن عزف محمد بن عبد الله عن أوثانهم وأبى أن يعبدها؟ كذلك فعل نفر غيره من الحنفاء، ليس عددهم بالذي يدخل في الحساب بزيادة أو نقصان، في الحشود من الحجيج الذين ينثالون إلى مكة من كل فج عميق، ليطيفوا بأوثانهم في البيت العتيق ويؤدوا طقوس عبادتهم جيلا بعد جيل..
وأوغل الليل قبل أن يطلع فجر هذه الليلة من رمضان، وينشر نوره البهي على القمم والسفوح والأودية والقيعان، فيضئ الظلمة الداجية.
ومع نور الفجر الوليد من الليلة الغراء، تجلى الوحي على المختلي في الغار، وألقى إليه الكلمة: (اقرأ).