رجل من أهل الشام وأن يعطيه هذا المبلغ ليستعينوا به على عدوهم - ابن زياد - و أمره بأن يوهمهم بولائه لأهل البيت (ع)، وتطيره من البيت الأموي، وأن يتسلل إلى خلاياهم ليعرف أحوالهم، سيما أحوال مسلم وأصحابه.
وفعلا فقد مضى هذا الجاسوس بتدبير متقن، وتمكن من معرفة الكثير عن المجتمعين، و أفلح في الإيقاع بالكثير منهم، ومن ثم إجهاض حركة الناس، وتمزيق وحدتهم، ولا يخفي، فقد كانت تلوح في الأفق أمور عدة للسيطرة على الأوضاع، وإضعاف حماس الناس ، ولقد جاء القدر بما لم يكن في الحسبان، ويقع ما لم يكن متوقعا من سوء الوضع و سرعة التحول، بهذه الصورة المفاجئة، وأمام هذه المفاجأة الغريبة والمفجعة، يقف الإنسان متسائلا: كيف استطاع ابن زياد السيطرة على الموقف، وإخماد ذلك الهياج الذي غمر الكوفة ضد سلطان الأمويين الغاشم؟ وكيف أصبح البلد بعد ذلك الوضع الثوري يستسلم ويفقد كل إمكانياته ومستلزمات نهضته؟ في الوقت الذي كان مسلم بن عقيل (ع) تسانده جبهة قوية تضم ألمع الشخصيات العربية - وهو سفير الحسين (ع) وممثله - فكيف انهارت الجبهة؟ وأين الزعماء الذين ساندوه، ليصبح وحيدا فريدا، يبحث عن ملجأ يؤويه في ذلك البلد الذي بايعه فيه ثمانية عشر ألفا؟
ويبدو الجواب واضحا، وبتأمل وإلقاء نظرة فاحصة مجردة، على كل عوامل الانحراف عن المسيرة الحقة.
فنلقي الأضواء على مجتمع الكوفة، لنتعرف على العناصر المختلفة فيه، والآراء المتفرقة بين أهلها، والقوميات المتعددة، والمتناحرة، والعصبيات القبلية التي تحكمت في ذلك المجتمع، فنقول:.
إن ابن زياد لم يدخل بلدا متماسك القوى، متحد الاتجاه، متفقا في الآراء، فضلا عن وجود أهل الأديان المختلفة فيها، والمذاهب المتفرقة، وكانت الكوفة مرتعا خصبا لدسائس اليهود الذين سكنوها أيام الفتح، والتحق بهم من أجلاهم عمر بن الخطاب من المدينة، وفيها أيضا للخوارج مركز اجتماعي ولهم ثقلهم في ذلك البلد، وقد انضم الخوارج إلى شيعة الحسين (ع)، لاتحاد الهدف في بغض الأمويين، واشتركوا في مراسلة الحسين، وعند قدوم ابن زياد استسلموا بدافع الخوف من بطشه، ولضعف عقيدتهم و خوائها فرجحت كفة ابن زياد باستعماله خطة إرهابية للقضاء على المعارضة وإجهاضها.
وإلى جانب ذلك فقد عمد ابن زياد إلى البطش والإرهاب، وإنزال أقسى العقوبات، و نشر الدعايات في البلد، حتى بلغت حد الأساطير: لغرض السيطرة على الأوضاع وتفتيت معنوية الناس.
وكانت الكوفة مركزا لتجمع القوميات كما أسلفنا، فقد كان فيها بقية الفرس الذين زال ملكهم عن العراق، والنبط الذين كانوا تحت سيطرة الفرس، فضلا عن اليهود والصابئة والنصارى، والأمر الذي لاشك فيه ولا خلاف حوله، هو أن الوضع في الكوفة كان يتسم بالقبلية والعشائرية، تسوده العصبيات كما قال شوقي منيف في كتاب التصور والتجديد في الشعر الأموي:... وتمضي الحياة في الكوفة قبلية، كما بدأ فيها الإحساس بالقبلية، وفيها