تاريخ ابن خلدون - ابن خلدون - ج ١ - الصفحة ٥١٨
على كتاب الشفاء والإشارات والنجاء وتلاخيص ابن رشد للقص من تأليف أرسطو وغيره يبعثر أوراقها ويتوثق من براهينها ويلتمس هذا القسط من السعادة فيها ولا يعلم أنه يستكثر بذلك من الموانع عنها ومستندهم في ذلك ما ينقلونه عن أرسطو والفارابي وابن سينا أن من حصل له إدراك العقل الفعال واتصل به في حياته فقد حصل حظه من السعادة والعقل الفعال عندهم عبارة عن أول رتبة ينكشف عنها الحس من رتب الروحانيات ويحملون الاتصال بالعقل الفعال على الادراك العلمي وقد رأيت فساده وإنما يعني أرسطو وأصحابه بذلك الاتصال والادراك إدراك النفس الذي لها من ذاتها وبغير واسطة وهو لا يحصل إلا بكشف حجاب الحس وأما قولهم إن البهجة الناشئة عن هذا الادراك هي عين السعادة الموعود بها فباطل أيضا لأنا إنما تبين لنا بما قرروه أن وراء الحس مدركا آخر للنفس من غير واسطة وأنها تبتهج بادراكها ذلك ابتهاجا شديدا وذلك لا يعين لنا أنه عين السعادة الأخروية ولا بد بل هي من جملة الملاذ التي لتلك السعادة وأما قولهم إن السعادة في إدراك هذه الموجودات على ما هي عليه فقول باطل مبني على ما كنا قدمناه في أصل التوحيد من الأوهام والأغلاط في أن الوجود عندكل مدرك منحصر في مداركه وبينا فساد ذلك وإن الوجود أوسع من إن يحاط به أو يستوفى إدراكه بجملته روحانيا أو جسمانيا والذي يحصل من جميع ما قررناه من مذاهبهم أن الجزء الروحاني إذا فارق القوى الجسمانية أدرك إدراكا ذاتيا له مختصا بصنف من المدارك وهي الموجودات التي أحاط بها علمنا وليس بعام الادراك في الموجودات كلها إذ لم تنحصر وأنه يبتهج بذلك النحو من الادراك ابتهاجا شديدا كما يبتهج الصبي بمداركه الحسية في أول نشوءه ومن لنا بعد ذلك بادراك جميع الموجودات أو بحصول السعادة التي وعدنا بها الشارع إن لم نعمل لها هيهات هيهات لما توعدون. وأما قولهم إن الانسان مستقل بتهذيب نفسه واصلاحها بملابسة المحمود من الخلق ومجانبة المذموم فامر مبني على أن ابتهاج للنفس بادراكها الذي لها من ذاتها هو عين السعادة الموعود بها لان الرذائل عائقة للنفس عن تمام إدراكها ذلك بما يحصل لها من الملكات الجسمانية وألوانها وقد بينا أن أثر السعادة والشقاوة من وراء الادراكات الجسمانية والروحانية
(٥١٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 513 514 515 516 517 518 519 520 521 522 523 ... » »»