تاريخ ابن خلدون - ابن خلدون - ج ١ - الصفحة ٢٨٨
من ضعف منهم فعمرت الأرض وأخصبت البلاد وكثرت الأموال عند جباة الخراج وقويت الجنود وقطعت مواد الأعداء وشحنت الثغور وأقبل الملك على مباشرة أموره بنفسه فحسنت أيامه وانتظم ملكه فتفهم من هذه الحكاية أن الظلم مخرب للعمران وأن عائدة الخراب في العمران على الدولة بالفساد والانتفاض ولا تنظر في ذلك إلى أن الاعتداء قد يوجد بالامصار العظيمة من الدول التي بها ولم يقع فيها خراب واعلم أن ذلك إنما جاء من قبل المناسبة بين الاعتداء وأحوال أهل المصر فلما كان المصر كبيرا وعمرانه كثيرا وأحواله متسعة بما لا ينحصر كان وقوع النقص فيه بالاعتداء والظلم يسيرا لان النقص إنما يقع بالتدريج فإذا خفي بكثرة الأحوال واتساع الاعمال في المصر لم يظهر أثره إلا بعد حين وقد تذهب تلك الدولة المعتدية من أصلها قبل خراب المصر وتجئ الدولة الأخرى فترقعه بجدتها وتجبر النقص الذي كان خفيا فيه فلا يكاد يشعر به إلا أن ذلك في الأقل النادر والمراد من هذا أن حصول النقص في العمران عن الظلم والعدوان أمر واقع لابد منه لما قدمناه ووباله عائد على الدول ولا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب كما هو المشهور بل الظلم أعم من ذلك وكل من أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه فجباة الأموال بغير حقها ظلمة والمعتدون عليها ظلمة والمنتهبون لها ظلمة والمانعون لحقوق الناس ظلمة وخصاب الاملاك على العموم ظلمة ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لاذهابه الآمال من أهله واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري وهي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال فلما كان الظلم كما رأيت مؤذنا بانقطاع النوع لما أدى إليه من تخريب العمران كانت حكمة الخطر فيه موجودة فكان تحريمه مهما وأدلته من القرآن والسنة كثيرة أكثر من أن يأخذها قانون الضبط والحصر ولو كان كل واحد قادرا على الظلم لوضع بإزائه من العقوبات الزاجرة ما وضع بإزاء غيره من المفسدات للنوع التي يقدر كل أحد على
(٢٨٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 283 284 285 286 287 288 289 290 291 292 293 ... » »»