تاريخ ابن خلدون - ابن خلدون - ج ١ - الصفحة ١٧٧
الفصل الثامن عشر في أن آثار الدولة كلها على نسبة قوتها في اصلها والسبب في ذلك أن الآثار إنما تحدث عن القوة التي بها كانت أولا وعلى قدرها يكون الأثر فمن ذلك مباني الدولة وهيا كلها العظيمة فإنما تكون على نسبة قوة الدولة في أصلها لأنها لا تتم إلا بكثرة الفعلة واجتماع الأيدي على العمل بالتعاون فيه فإذا كانت الدولة عظيمة فسيحة الجوانب كثيرة الممالك والرعايا كان الفعلة كثيرين جدا وحشروا من آفاق الدولة وأقطارها فتم العمل على أعظم هياكله ألا ترى إلى مصانع قوم عاد وثمود وما قصه القرآن عنهما وانظر المشاهدة إيوان كسرى وما اقتدر فيه الفرس حتى إنه عزم الرشيد على هدمه وتخريبه فتكاءد عنه وشرع فيه ثم أدركه العجز وقصة استشارته ليحيى ابن خالد في شأنه معروفة فانظر كيف تقتدر دولة على بناء لا تستطيع أخرى على هدمه مع بون ما بين الهدم والبناء في السهولة تعرف من ذلك بون ما بين الدولتين وانظر إلى بلاط الوليد بدمشق وجامع بني أمية بقرطبة والقنطرة التي على واديها وكذلك بناء الحنايا لجلب الماء إلى قرطاجنة في القناة الراكبة عليها وآثار شرشال بالمغرب والأهرام بمصر وكثير من هذه الآثار الماثلة للعيان يعلم منه اختلاف الدول في القوة والضعف وأعلم أن تلك الأفعال للأقدمين إنما كانت بالهندام واجتماع الفعلة وكثرة الأيدي عليها فبذلك شيدت تلك الهياكل والمصانع ولا تتوهم ما تتوهمه العامة أن ذلك لعظم أجسام الأقدمين عن أجسامنا في أطرافها وأقطارها فليس بين البشر في ذلك كبير بون كما نجد بين الهياكل والآثار ولقد ولع القصاص بذلك وتغالوا فيه وسطروا عن عاد وثمود والعمالقة في ذلك أخبارا عريقة في الكذب من أغربها ما يحكون عن عوج بن عناق (1) رجل من العمالقة الذين قاتلهم بنو إسرائيل في الشام زعموا أنه كان لطوله يتناول السمك من البحر ويشويه إلى الشمس ويزيدون إلى جهلهم بأحوال البشر الجهل بأحوال الكواكب لما اعتقدوا أن للشمس حرارة وأنها شديدة فيما قرب منها ولا يعلمون

(1) قوله ابن عناق الذي في القاموس في باب الجيم موج بن عوق بالواو والمشهور على السنة الناس عنق بالنون قله نصر الهوريني
(١٧٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 172 173 174 175 176 177 178 179 180 181 182 ... » »»