فأعجبه ذلك ودمعت عيناه وشكر له وقال لي بعض أصحابنا سمعته يوما وهو يحكي للجماعة الحاضرين عنده قال لما كنا في المدرسة النظامية ببغداد اتفق أربعة خمسة من الفقهاء المشتغلين على استعمال حب البلاذر لأجل سرعة الحفظ والفهم فاجتمعوا ببعض الأطباء وسألوه عن مقدار ما يستعمل الإنسان منه وكيف يستعمله ثم اشتروا القدر الذي قال لهم الطبيب وشربوه في موضع خارج عن المدرسة فحصل لهم الجنون وتفرقوا وتشتتوا ولم يعلم ما جرى عليهم وبعد أيام جاء إلى المدرسة واحد منهم وكان طويلا وهو عريان ليس عليه شيء يستر عورته وعلى رأسه بقيار كبير له عذبة طويلة خارجة عن العادة وقد ألقاها وراءه فوصلت إلى كعبه وهو ساكت عليه السكينة والوقار لا يتكلم ولا يعبث فقام إليه من كان حاضرا من الفقهاء وسألوه عن الحال فقال لهم كنا قد اجتمعنا وشربنا حب البلاذر فأما أصحابي فإنهم جنوا وما سلم منهم إلا أنا وحدي وصار يظهر العقل العظيم والسكون وهم يضحكون منه وهو لا يشعر بهم ويعتقد أنه سالم مما أصاب أصحابه وهو على تلك الحالة لا يفكر فيهم ولا يلتفت إليهم وأخبرني جماعة مما كانوا عنده قبل وصولنا إليه أنه قدم عليه الأديب نظام الدين أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف بن مسعود القيسي القرطبي المعروف بابن خروف الشاعر المعروف فكتب إليه رسالة وفي أولها أبيات يستجديه فروة قرظ وهي (بهاء الدين والدنيا * ونور المجد والحسب) (طلبت مخافة الأنواء * من نعماك جلد أبي) (وفضلك عالم أني * خروف بارع الأدب) (حلبت الدهر أشطره * وفي حلب صفا حلبي)
(٩٤)