فمضى وأخبر الوليد بالحال فقالت له كذبت يا ابن الفاعلة ثم جاء الوليد إلى أم البنين فدخل وهي جالسة في ذلك البيت تمشط رأسها وكان الخادم قد وصف له الصندوق فجلس الوليد فوقه ثم قال يا أم البنين ما أحب هذا البيت إليك دون البيوت فلم اخترته قالت لأنه مجمع حوائجي كلها فأنا أتناولها منه من قريب فقال هبي لي صندوقا من هذه الصناديق فقالت كلها بحكمك يا أمير المؤمنين فقال إنما إريد واحدا منها فقالت خذ أيها شئت فقال هذا الصندوق الذي تحتي فقالت غيره أحب إليك منه فإن لي فيه أشياء أحتاج إليها فقال ما أريد سواه فقالت خذه فدعا بالخدم وأمرهم بحمله حتى انتهى إلى مجلس فوضعه فيه ثم دعا عبيدا له عجما وأمرهم بحفر بئر في المجلس فحفرت إلى الماء ثم دعا بالصندوق فوضعه على شفير البئر ودنا منه وقال يا صاحب الصندوق إنه بلغنا شيء إن كان حقا فقد دفناك ودفنا ذكرك إلى آخر الدهر وإن كان باطلا فإنما دفنا الخشب وما أهون ذلك ثم قذف به في البئر وهيل عليه التراب وسويت الأرض ورد البساط عليه فما رؤي الوضاح بعد ذلك اليوم ولا أبصرت أم البنين في وجه الوليد غضبا حتى فرق الموت بينهما وقيل حضر بساط الحجاج رجل تعين عليه القتل وحضر أهل القود بحضوره فلما فرش النطع وسل السيف اتفق أن ملأ عينه في حاله تلك فرأى بريق السيف ولمعان برق فاستنظر ثم أنشد مرتجلا (تألق البرق من نجد فقلت له * يا أيها البرق إني عنك مشغول) (يكفيك ما قد ترى من ثائر حنق * في كفه كصبيب الماء مسلول) فلما رأى الحجاج ما كان من حضور ذهنه وجودة شعره عطف عليه إشفاقا له وعرض على طالبيه أن يؤدي عنه ديته فجعلوا يأبون وجعل يتولج في تحليل القصة ويتدرج في تنفيس الدية حتى بذل لهم دية ملك فلما أبوا وعتوا قال لحرسه فكوا قيده وخلوا سبيله فإن من لم ينس أحبته في هذا المقام لجدير أن لا يقتل
(٤٦)