فبلغ ذلك أهل حلب من الصلح لقنسرين ومسير العرب فاضطربوا اضطرابا شديدا وكان عليهم رئيسان أخوان لأب وأم وكانا يسكنان في القلعة ولم تكن القلعة محيطة بالمدينة بل كانت المدينة منفردة بذاتها وكان البطريقان يقال لأحدهما يوقنا والآخر يوحنا وكان أبوهما ملك البلد وأعماله وضياعه ورساتيقه إلى حدود الضروب والى حدود الفرات وقد ملك حلب سنين لا ينازعه فيها منازع وكان هرقل طاغية الروم يهابه ويوقره ولا يحاربه كل ذلك لبقاء ملكهم واجتماع كلمتهم لأنه كان قد انتزع من رومية إلى أقصى البلاد لئلا يجيش عليه أحد جيشا ولا ينازعه في ملكه لكثرة شره وتدبيره وشدة بني عمه فلما نزل بالعواصم استخلص لنفسه قلعة حلب وبناها وحصنها ومكن في البلاد فلما هلك آل الامر بعده لولده يوقنا وكان الكبير وكان شجاعا بطلا جامعا للأموال مقداما للحروب لا يصطلي له بنار ولا يدفع شره وكان أخوه يوحنا دينا قد نزع يده من الرياسة وترهب وكان أعلم الناس في أهل زمانه وانه لما بلغهم الخبر أن أبا عبيدة قد قصد إليهم قال لأخيه يوقنا على ماذا عولت قال على قتال العرب ولا أدعهم يقربون من أرضنا وبلادنا حتى يرى العرب أني لست كمن لقوا من بطارقة الشام ولا من غيرها وكان يوحنا قد درس الإنجيل وقرأ المزامير وليس له همة الا عمارة الكنائس والأديرة وتشييد المواضع وكثرة الشمامسة والقسوس والرهبان والقيام بأمورهم فلما بلغ هذين الأخوين فتح العواصم عنوة وقنسرين صلحا وان العرب نازلون عليها وان خيلهم تضرب إلى الفرات والعواصم والبقاع فأقبل يوحنا على أخيه الأكبر يوقنا وقال يا أخي أريد أن أختلي بك الليلة واشاورك وأطلعك على سري ورأيي وأشرف على سرك ورأيك قال نعم فلما اجتمعا في الليل في دار كانت لأبيهما في القلعة وجلسا للمشورة أقبل يوقنا على أخيه يوحنا وقال يا أخي الا ترى ما نزل بنا من العرب الجياع الأكباد العراة الأجساد وما حل بأهل الشام منهم من القتل والنهب وأخذ الأموال وأنهم لا ينزلون مدينة من مدن الشام الا فتحوها وملكوا أهلها فما ترى أن تصنع في أمر هؤلاء فكأني بهم وقد أشرفوا علينا قال الواقدي فقال يوحنا يا أخي إذ قد استشرتني في أمرك فاني أنصحك ولا أغشك إذا قبلت النصيحة وأن كنت أصغر منك سنا فاني أعلم منك بصيرة فوحق المسيح والقربان لئن قبلت مشورتي ليعلون أمرك ويسلم لك مالك ونفسك فقال يوقنا يا أخي ما علمتك الا ناصحا فما عندك من الرأي فقال الرأي عندي أن ترسل رسولا إلى العرب وتبذل لهم ما شاءوا وتسألهم الصلح وتتفق معهم على معلوم يدفع لهم في كل عام ما دامت الغلبة لهم فلما سمع يوقنا ذلك من كلام أخيه يوحنا اقبل عليه وقد استوثق منه الغضب وقال قبحك المسيح ما أعجز رأيك ما ولدتك أمك الا راهبا أو قسيسا ولم أقلدك لا ملكا ولا محاربا ولا مقاتلا والرهبان ليس لهم قلوب لاكلهم العدس والزيت والبقل ولا يأكلون اللحم ولا يعرفون النعيم وليس لهم بالقتال
(٢٤٦)