عيون الأنباء في طبقات الأطباء - ابن أبي أصبيعة - الصفحة ٥٩٤
ومن حكاياته معه أنه كان قد عرض لبعض جهاته مرض عجز عن مداواته فسيرت تلك الجهة تقول له أنا أعرف أن السلطان لو عرف أن في الديار المصرية طبيبا خيرا منك لما سلم نفسه وأولاده إليك من دون كافة الأطباء فأنت ما تؤتى في مداواتي من قلة معرفة بل من التهاون بأمري بدليل أنك تمرض فتداوي نفسك في أيام يسيرة وكذلك يمرض أحد أولادك فتداويه في أيام يسيرة أيضا وكذلك بقية الجهات التي عندنا ما منهم إلا من تداويه وتنجع مداواتك بأيسر سعي فقال لها ما كل الأمراض تقبل المداواة ولو قبلت الأمراض كلها المداواة لما مات أحد فلم تسمع ذلك منه وقالت أنا أعرف أن ما بقي في الديار المصرية طبيب وأنا أشير إلى السلطان يستخدم لي أطباء من دمشق فاستخدم لها طبيبين نصرانيين فلما حضرا لمداواتها من دمشق اتفق سفر السلطان إلى دمياط فاستؤذن من يمضي معه من الأطباء ومن يترك فقال الأطباء كلهم يبقون في خدمة تلك الجهة والحكيم فلان وحده يكون معي فأما أولئك الأطباء فأنهم عالجوها بكل ما يقدرون عليه وتعبوا في مداواتها فلم ينجع فانبسط في ذلك عذر المذكور وأورد ما ذكر أبقراط في تقدمة المعرفة ثم أنه لما سافر مع السلطان بقي في خدمته مدة شهر لم يتفق له أن يستدعيه وبعد ذلك بدمياط استدعاه ليلا فحضر بين يديه فوجده محموما ووجد به أعراضا مختلفة يباين بعضها بعضا فركب له مشروبا يوافق تلك الأعراض المختلفة وحمله إليه في السحر فلم تغب الشمس إلا وقد زال جميع ما كان يشكوه فحسن ذلك عنده جدا ولم يزل ملازما لاستعمال ذلك التدبير إلى أن وصل إلى الإسكندرية واتفق أول يوم من صيام شهر رمضان أن الحكيم المذكور مرض بها فحضر إليه الأطباء الذين في الخدمة واستشاروه فيما يحملون إلى السلطان يفطر عليه فقال لهم عنده مشروب قد جربه وهو يثني عليه ويطلبه دائما فما دام لا يشكو لكم شيئا متجددا يمنع من استعماله فاحملوه إليه وإن تجدد لكم شيء فاستعملوا ما تقتضيه المصلحة الحاضرة فمضوا ولم يقبلوا منه قصدا منهم أن يجددوا تدبيرا من جهتهم فلما جددوا ذلك التدبير تغير عليه مزاجه فاستدعاهم واستدعى نسخة الحكيم المذكور وأخذ يحاققهم عليها فكان من جملة ما فيها بزر هندبا وقد حذفوه فقال لهم لماذا حذفتم هذا البزر وهو مقو للكبد منق للعروق قاطع للعطش فقال أحد الأطباء الذين حضروا والله ما للمماليك في حذفه ذنب إلا أن الأسعد بن أبي الحسن نقل في بزر الهندبا نقلا شاذا بأنه يضر بالطحال المملوك والله ما يعرفه وزعم أن بمولانا طحالا فوافقه المماليك على ذلك فقال والله يكذب أنا ما بي وجع طحال وأمر بإعادة بزر الهندبا إلى مكانه ثم حاققهم على منفعة دواء من مفردات ذلك المشروب التي حذفوها إلى أن أعادوهما وأعاد استعماله دائما ولم يزل منتفعا به شاكرا له
(٥٩٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 589 590 591 592 593 594 595 596 597 598 599 ... » »»