عيون الأنباء في طبقات الأطباء - ابن أبي أصبيعة - الصفحة ٥٥٢
كالرسم الذي لا يحتاج فيه إلى مواكسة ولا معاودة قول فيجعلها مؤونته لسنته ولم يزل على ذلك إلى أن مات بالقاهرة في حدود سنة ثلاثين وأربعمائة أو بعدها بقليل والله أعلم أقول ونقلت من خط ابن الهيثم في مقالة له فيما صنعه وصنفه من علوم الأوائل إلى آخر سنة سبع عشرة وأربعمائة لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم الواقع في شهور سنة ثلاث وستين الهلالية من عمره ما هذا نصه قال إني لم أزل منذ عهد الصبا مرتابا في اعتقادات هذه الناس المختلفة وتمسك كل فرقة منهم بما تعتقده من الرأي فكنت متشككا في جميعه موقنا بأن الحق واحد وأن الاختلاف فيه إنما هو من جهة السلوك إليه فلما كملت لإدراك الأمور العقلية انقطعت إلى طلب معدن الحق ووجهت رغبتي وحدسي إلى إدراك ما به تنكشف تمويهات الظنون وتنقشع غيابات المتشكك المفتون وبعثت عزيمتي إلى تحصيل الرأي المقرب إلى الله جل ثناؤه المؤدي إلى رضاه الهادي لطاعته وتقواه فكنت كما قال جالينوس في المقالة السابعة من كتابه في حيلة البرء يخاطب تلميذه لست أعلم كيف تهيأ لي منذ صباي أم شئت قلت باتفاق عجيب وإن شئت قلت بإلهام من الله وإن شئت قلت بالجنون أو كيف شئت أن تنسب ذلك أني ازدريت عوام الناس واستخففت بهم ولم ألتفت إليهم واشتهيت إيثار الحق وطلب العلم واستقر عندي أنه ليس ينال الناس من الدنيا أشياء أجود ولا أشد قربة إلى الله من هذين الأمرين قال محمد بن الحسن فخضت لذلك في ضروب الآراء والاعتقادات وأنواع علوم الديانات فلم أحظ من شيء منها بطائل ولا عرفت منه للحق منهجا ولا إلى الرأي اليقيني مسلكا مجددا فرأيت أنني لا أصل إلى الحق إلا من آراء يكون عنصرها الأمور الحسية وصورتها الأمور العقلية فلم أجد ذلك إلا فيما قرره أرسطوطاليس من علوم المنطق والطبيعيات والإلهيات التي هي ذات الفلسفة وطبيعتها وحين بدأ بتقرير الأمور الكلية والجزئية والعامية والخاصية ثم تلاه بتقرير الألفاظ المنطقية وتقسيمها إلى أجناسها الأوائل ثم أتبعه بذكر المعاني التي تتركب مع الألفاظ فيكون منها الكلام المفهوم المعلوم ثم أفرد من ذلك الأخبار التي هي عنصر القياس ومادته فقسمها إلى أقسامها وذكر فصولها وخواصها التي تميزها بعضها من بعض ويلزم منه صدقها وكذبها ويعرض معه اتفاقها واختلافها وتضادها وتناقضها ثم ذكر بعد ذلك القياس فقسم مقدماته وشكل أشكاله ونوع تلك الأشكال وميز من الأنواع ما لا يلزم دائما نظاما واحدا وأفردها مما يلزم أدبا نظاما واحدا ثم ذكر النتائج التي تلزم منها مع اقترانات عناصر الأمور التي هي الواجب والممكن والممتنع وبين وجوه اكتساب مقدمات القياس الضرورية والإقناعية وما هو من جهة الأولى والأشبه والأكثر وما يلزم من جهة العادات والاصطلاحات وسائر الأمور القياسية وذكر صور القياس وفصل فصوله ونوع أنواعه ثم ختم ذلك بذكر طبيعة البرهان وشرح مواده وأوضح صوره وبين الشبه المغلطة فيه وكشف عن مستوره وخافيه ثم تلا ذلك بالكلام في الصناعات الأربع الجدلية والمرائية والخطبية والشعرية فأوضح من ذلك ما
(٥٥٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 547 548 549 550 551 552 553 554 555 556 557 ... » »»