سير أعلام النبلاء - الذهبي - ج ٢ - الصفحة ٥١
فقال أنيس: إن لي حاجة بمكة، فاكفني. فانطلق أنيس حتى أتى مكة، [فراث علي] (1) ثم جاء. فقلت: ما صنعت؟ قال: لقيت رجلا بمكة على دينك، يزعم أنه مرسل. قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون:
شاعر، كاهن، ساحر. قال: وكان أنيس أحد الشعراء، فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقوال (2) الشعراء، فما يلتئم على لسان أحد أنه شعر، والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون! قلت: فاكفني حتى أذهب فأنظر!
فأتيت مكة، فتضعفت (3) رجلا منهم، فقلت: من هذا الذي تدعونه الصابي؟ فأشار إلي، فقال: الصابئ. قال: فمال علي أهل الوادي بكل مدرة، وعظم، حتى خررت مغشيا علي. فارتفعت حين ارتفعت كأني نصب (4) أحمر، فأتيت زمزم، فغسلت عني الدماء، وشربت من مائها.
ولقد لبثت - يا ابن أخي - ثلاثين، بين ليلة ويوم، مالي طعام إلا ماء زمزم. فسمنت حتى تكسرت عكني، وما وجدت على كبدي سخفة (5) جوع.
فبينا أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان (6)، جاءت امرأتان تطوفان،

(1) يقال: راث فلان علينا إذا أبطأ.
(2) في صحيح مسلم: على أقراء الشعر وهي طرائقه وأنواعه، واحدها: قرء.
(3) أي نظرت إلى أضعفهم، وفي " الطبقات " فاستضعفت رجلا منهم، وقد تحرفت في المطبوع إلى " تضيفت ".
(4) النصب: الحجر أو الصنم الذي كانوا ينصبونه في الجاهلية ويذبحون عليه، فيحمر من كثرة دم القربان والذبائح، أراد أنهم ضربوه حتى أدموه.
(5) سخفة الجوع: رقته وهزاله.
(6) يقال: ليلة إضحيان وإضحيانة أي: مضيئة لا غيم فيها. فقمرها ظاهر يضيئها.
(٥١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 ... » »»