الاحكام - ابن حزم - ج ٨ - الصفحة ١١٢٣
الاشتقاق الصحيح إنما هو اختراع اسم لشئ ما مأخوذ من صفة فيه، كتسمية الأبيض من البياض، والمصلي من الصلاة، والفاسق من الفسق، وما أشبه ذلك.
وليس في ذلك من هذا ما يوجب أن يسمى أبيض ما لا بياض فيه، ولا مصليا من لا يصلي، ولا فاسقا، من لا فسق فيه، فأي شئ في هذا مما يتوصل به إلى إيجاب القياس، والقول بأن البر إنما حرم أن يباع البر متفاضلا، لأنه مأكول، أو لأنه مكيل، أو لأنه مدخر؟ وهل يتشكل هذا الحمق في عقل ذي عقل؟ وبالله تعالى التوفيق.
وأما ما عدا هذا من الاشتقاق ففاسد البتة وهو كل اسم علم وكل اسم جنس أو نوع أو صفة، فإن الاشتقاق في كل ذلك مبطل ببرهان ضروري، وهو أننا نقول لمن قال: إنما سميت الخيل خيلا لأجل الخيلاء التي فيها، وإنما سمي البازي بازيا لارتفاعه، والقارورة قارورة لاستقرار الشئ فيها، والخابية خابية لأنها تخبأ ما فيها، إنه يلزمك في هذا وجهان ضروريان لا انفكاك لك منهما البتة.
أحدهما: أن تسمي رأسك خابية، لان دماغك مخبوء فيها وأن تسمي الأرض خابية، لأنها تخبئ كل ما فيها، وأن تسمي أنفك بازيا لارتفاعه، وأن تسمي السماء والسحاب بازيا لارتفاعهما، وكذلك القصر والجبل، وأن تسمي بطنك قارورة لان مصيرك مستقر به، وأن تسمي البئر قارورة لان الماء مستقر فيها، وأن تسمي المستكبرين من الناس خيلا، للخيلاء التي فيهم، ومن فعل هذا لحق بالمجانين المتخذين لاضحاك سخفاء الملوك في مجالس الطرب، وصار ملهى وملعبا وضحكة يتطايب بخبره، وكان للحرمة ومداواة الدماغ أولى منه بغير ذلك، فإن أبى ترك اشتقاقه الفاسد.
والوجه الثاني: أن يقال: إن اشتققت الخيل من الخيل أو القارورة من الاستقرار والخابية من الخب ء: فمن أي شئ اشتققت الخيلاء والاستقرار والخب ء، وهذا يقتضي الدور الذي لا ينفك منه، وهو أن يكون كل واحد منهما اشتق من صاحبه، وهذا جنون، أو وجود أشياء لا أوائل لها ولا نهاية، وهذا مخرج إلى الكفر والقول بأزلية العالم، ومع أنه كفر فهو محال ممتنع.
وأيضا: فإذا بطل الاشتقاق في بعض الأسماء كلف من قال به في بعضها أن يأتي ببرهان، وإلا فهو مبطل.
(١١٢٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 1118 1119 1120 1121 1122 1123 1124 1125 1126 1127 1128 ... » »»
الفهرست