القولين الأولين قولا بثبوت الحقيقة الشرعية فقد سها أو أحدث اصطلاحا وربما عزي إلى الباقلاني القول بأن هذه الألفاظ باقية في معانيها اللغوية والزيادات شروط لقبولها وصحتها وهو غير ثابت ثم النزاع هنا إما في الألفاظ التي هي حقيقة عند المتشرعة في معانيها الشرعية واستعملها الشارع ولم يعلم أنه من مصطلحاتهم أو في الألفاظ التي كانت حقيقة فيها في أول زمن وقع فيه هذا النزاع أعني زمن الصادقين على ما قيل فالوجهان متقاربان ولعل الأول أوفق بالاعتبار ويظهر من بعضهم أن النزاع في مطلق الألفاظ التي هي حقائق عند المتشرعة وهو بعيد إذ منها ما يعلم أنه من مصطلحاتهم فكيف يتصور وقوع النزاع فيه إذا عرفت هذا فالذي يقوى عندي أن جملة من تلك الألفاظ قد كانت حقائق في معانيها الشرعية في الشرائع السابقة كالصلاة والصوم والزكاة والحج لثبوت ماهياتها فيها كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عن عيسى بن مريم و أوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وقوله تعالى لإبراهيم وأذن في الناس بالحج وقوله تبارك اسمه كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم إلى غير ذلك وإذا ثبت أن هذه الماهيات كانت مقررة في الشرائع السابقة ثبت كون هذه الألفاظ حقيقة فيها في لغة العرب في الزمن السابق لتدينهم بتلك الأديان وتداول ألفاظها بينهم وعدم نقل لفظ آخر عنهم بإزائها ولو كان لقضت العادة بنقله و لا يقدح وقوع الاختلاف في ماهياتها بحسب اختلاف الشرائع و إن قلنا بأن مسمياتها الماهيات الصحيحة كما هو المختار حيث إنها بهذه الكيفية كانت فاسدة حال الوضع لأنا نلتزم بأنها موضوعة بإزاء القدر المشترك الصحيح فيكون الاختلاف في المصاديق لا في نفس المفهوم كاختلاف مصاديق ماهياتها المعتبرة في شرعنا باختلاف الأحوال تمكنا وعجزا تذكرا ونسيانا وغير ذلك فكما لا يوجب هذا الاختلاف تعدد الوضع مع تفاحشه في البعض كالصلاة فليكن الاختلاف المذكور كذلك ثم على تقدير تحقق هذه الحقائق في الشرائع السابقة فهل هي بوضعه تعالى لها فيها أو بوضع أول نبي شرعت تلك الماهيات في شرعه أو بغلبة الاستعمال في لسانه أو لسان متابعيه أو الجميع وجوه يمكن معرفتها بما فيها مما يأتي من الحجج فعلى ما اخترناه تكون تلك الألفاظ حقائق لغوية في معانيها الشرعية حيث إن الحقيقة اللغوية هي الحقيقة التي تكون قبل زمن النبي صلى الله عليه وآله كما هو الظاهر و لا ينافي ذلك كون العبادات توقيفية لان معانيها الشرعية على هذا البيان مجهولة الكنه والحقيقة ولا سبيل إلى معرفتها بعد العلم بالاختلاف في أمور كثيرة إلا بالتلقي من صاحب الشريعة وأما غير ذلك من الألفاظ التي لم يثبت مشروعية معانيها في الشرائع السابقة فإن كانت مما تشتد الحاجة إليها فالظاهر ثبوت النقل فيها بغلبة الاستعمال في زمانه صلى الله عليه وآله في لسانه صلى الله عليه و آله ولسان متابعيه بحكم العادة وليس هذا بالحقيقة الشرعية كما نبهنا عليه وإلا فحيث يعلم بحصول النقل فيه من الأزمان المتأخرة و سيأتيك توضيح بعض هذه المواضع حجة القول الأول وجوه الأول و هو المعروف من المتقدمين القطع بأن الصلاة والصوم والحج أسماء لمعانيها الشرعية لتبادرها منها إلى الفهم عند الاطلاق وأن ذلك لا يكون إلا بتصرف الشارع ونقله إياها إلى تلك المعاني والجواب أن التبادر المدعى إن كان بالنسبة إلى زمان أهل الشرع فمسلم لكن لا يثبت به إلا الحقيقة عندهم وإن كان بالنسبة إلى زمان الشارع فممنوع لا يقال لا سبيل إلى المنع بعد وقوع النقل لما مر من أن المسائل اللغوية يكتفي فيها ولو بنقل الواحد لأنا نقول الظاهر أن المستدل بذلك لم يطلع على أكثر مما اطلعنا عليه في المقام فنقل التبادر منه على تقدير عدم ثبوته عندنا بعد الفحص موهون على أن كلامه ظاهر في دعوى التبادر بالنسبة إلى زمانه لا زمان الشارع فالكلام المذكور معه مناقشة ظاهرية سلمنا لكن لا نسلم أن ذلك لا يكون إلا بنقل الشارع لها لجواز أن يكون بغلبة الاستعمال بين المتشرعة في زمانه الثاني أن هذه المعاني مما يشتد الحاجة إلى إيرادها والتعبير عنها فمقتضى الحكمة أن يضع الشارع بإزائها ألفاظا ليستغني به عن تكلف القرينة مع أن في الوضع من السلامة من الاخلال بالفهم ما ليس في القرينة إذ ربما تخفي فيختل فهم المقصود ثم إذا ثبت الوضع فليس الموضوع إلا هذه الألفاظ المتداولة على ألسنة أهل الشرع وذلك ظاهر والجواب أن مرجع هذا الوجه إلى الاستحسان ولا تعويل عليه سيما في إثبات الوضع مع أنها لا تقتضي خصوص الوضع بل ما يوجب الغناء عن تكرير القرينة ولو بنصب قرينة عامة كقوله كلما أطلق هذه الألفاظ فالمراد معانيها الشرعية مجازا ما لم أنصب قرينة على الخلاف أو يفهمهم ذلك بقرائن الأحوال الثالث الاستقراء فإنا تتبعنا استعمالات الشارع لهذه الألفاظ فوجدناه يستعملها غالبا في معانيها المخترعة عنده حتى كاد أن لا يوجد استعماله إياها في معانيها اللغوية مع ما نرى من كثرة استعماله لها وتكررها في كلامه فإن ذلك يفيدنا الظن بأنه قد بنى من أول الامر على نقل هذه الألفاظ إلى معانيها الشرعية أ لا ترى إذا نحكم على الألفاظ المتداولة في عرف أرباب العلوم والصنائع بأنها منقولات عندهم بمجرد غلبة استعمالهم إياها في معانيها المخترعة عندهم وإن انضم إلى ذلك النقل في بعض الموارد وظاهر أن الشارع لا يقصر عن عرفهم في ذلك فليحكم بالنقل هنا كما يحكم به هناك والجواب أن غلبة الاستعمال لا يوجب البناء على النقل لجواز البناء على التجوز فإن رجح الأول بأنه أوفق بالحكمة رجع إلى إثبات الوضع بالاستحسان وقد مر فساده وتمثيل ذلك بالألفاظ المتداولة عند أرباب العلوم والصنائع مدفوع بأن النقل التعييني غير ثابت في كثير من تلك الألفاظ وإن تحققت الغلبة فيها ولو قلنا بثبوته هناك كما صدر عن البعض فمبني على المسامحة رعاية لبعض الامارات الضعيفة إذ لا يترتب عليه ثمرة فتأمل ولا يذهب عليك أن هذا الاستقراء ليس بالاستقراء الذي ذكرنا أنه حجة في مباحث الألفاظ الرابع نقل جماعة من العلماء وقوعها و ظاهر أن هذه المسألة لغوية يكتفي فيها بنقل الواحد فضلا عن المتعذر لا يقال نقل البعض وقوعها معارض بنقل غيرهم عدم وقوعها فلا يبقى تعويل عليه لأنا نقول المثبت مقدم على النافي لان مرجع النفي إلى عدم الاطلاع غالبا وهو لا يصلح لمعارضة مدعيه كما مر التنبيه عليه على أن القول
(٤٣)