بالاثبات أشهر فهو بالترجيح على تقدير التكافؤ أجدر والجواب أن مستند المثبتين لما كان بعض الوجوه المتقدمة والآتية بل المعروف منهم الاستناد إلى الحجة الأولى كما عرفت وهي لا تنهض دليلا على الاثبات لم يتجه الاستناد إلى نقلهم فإن نقلهم ليس حجة في نفسه بل من حيث إفادته الظن ولا وثوق به على تقدير ضعف المستند وقد مر التنبيه عليه سابقا فإن قلت ضعف المستند المذكور لا يقتضي ضعف النقل لجواز أن يكون لهم مستند آخر لم يتعرضوا لذكره قلت لا ريب في أنه خلاف الظاهر من مقام الاستدلال ولا يكفي في الوثوق مجرد الاحتمال الخامس أن علماء الاعصار والأمصار كانوا لا يزالون يحملون هذه الألفاظ على معانيها الشرعية ويستدلون بها في موارد الحاجة ومواضع الخلاف ولم يكن لهم على ذلك من نكير وذلك إجماع منهم على أن هذه الألفاظ كانت في عرف الشارع حقائق في معانيها الشرعية والجواب أن الاجماع المدعى على الحمل المذكور إن كان بالنسبة إلى المثبتين فمسلم لكن لا يثبت به الدعوى كما لا تثبت بمقالتهم وإن كانت بالنسبة إلى المنكرين أيضا فممنوع سلمنا لكن استعمال الشارع لهذه الألفاظ لا يكاد يوجد مجردا عن القرائن المعينة للمراد فلعل منشأ حملهم لها على هذه المعاني وجود تلك القرائن دون الوضع السادس أن كثيرا من هذه الألفاظ كلفظ الصلاة والصوم والزكاة والحج والطواف والركوع و السجود كانت حقائق في معانيها الشرعية في الشرائع السابقة كما يرشد إليه تتبع القصص الواردة في القرآن وغيره فيثبت المقصود فيها بضميمة أصالة عدم الهجر وفي الباقي بضميمة عدم القول بالفصل إذ لا فارق هنا بين النفي والاثبات الكليين أما التفاصيل التي ذهب إليها المتأخرون فلا عبرة بها لوقوعها بعد ما انعقد عليه إجماع المتقدمين لا يقال لا يلزم من كون تلك الماهيات مشروعة في الأمم السابقة أن يكون تلك الألفاظ موضوعة بإزائها لجواز أن يكون قد وضع بإزائها ألفاظ أخر ورد الحكاية عنها بهذه الألفاظ لأنا نقول هذه الاحتمال مدفوع بأصالة عدم تعدد الوضع على أنه لو وقع ذلك لنقله لنا نقلة اللغة وإذ ليس فليس والجواب أن كلام المثبتين ليس صريحا في الاثبات الكلي وإن عزي إليهم ولو سلم فصحة الاستناد في مثل المقام إلى عدم القول بالفصل ممنوعة بعد ما تبين الحال واتضح وجه المقال علي أن الذي أراده المثبتون كما يظهر من كلامهم وصرح به بعضهم هو أن الشارع نقل تلك الألفاظ عن معانيها اللغوية ووضعها بإزاء معانيها الشرعية لا أنها كانت موضوعة لتلك المعاني قبل زمان الشارع بل ربما يشعر كلام بعضهم بإنكار ذلك ففي البناء على الدليل المذكور نقض لكلام الفريقين وإحداث قول في البين السابع وهو يختص بإثباتها بالوضع التعيني أن العادة قاضية بأن هذه الألفاظ قد أكثر الشارع استعمالها في معانيها الشرعية دون معانيها اللغوية لظهور توفر دواعيه عليه ومسيس حاجته إليه حيث إنه صلى الله عليه وآله كان لا يزال يبين للناس أحكامها ويحثهم على المواظبة عليها ويأمرهم بتعلم وظائفها وأدائها وتعليم غيرهم إياها وذلك كله غالبا لا يكون إلا بتكرير الألفاظ المعينة بإزائها وكل لفظ بلغ في معناه المجازي هذه الغاية و استمر على هذه المثابة ولو أياما قليلة ولا ريب في صيرورته حقيقة في المنى المجازي كما يشهد به الاعتبار السليم وحيث إن هذا الدليل لا يساعد على الاثبات الكلي اقتصر بعضهم على حسب ما يتناوله من الألفاظ التي يتداول ذكرها وتمس الحاجة غالبا إلى استعمالها وعول على أصالة عدم النقل فيما عداها والجواب أن الغلبة في لسان الشارع مسبوق بالغلبة في لسان الآخرين قضاء لحكم العادة نظرا إلى كثرتهم وتوفروا دواعيهم على الاستعمال فيكون صيرورتها حقيقة عندهم متقدما على صيرورتها حقيقة عند الشارع و بعد صيرورة اللفظ حقيقة عندهم يتبعهم لسان الشارع لان لسان الواحد من القوم تابع للسان الآخرين فلا يتحقق إذن إلا الحقيقة عند المتشرعة وبهذا المقال يتبين وجه القول الأول بل الثاني أيضا من التفاصيل المحكية عن النافين ويمكن رده بأن النقل المذكور إنما حصل في لسان الشارع وغيره فتخصيصه بغيره أيضا لا وجه له إذ كما لا يمكن نسبة النقل المذكور إلى الشارع فقط لعدم استقلاله به كذلك لا يكن نسبته إلى المتشرعة فقط لعدم استقلالهم به وترجيح الثاني بالغلبة منقوض برجحان الأول بالتأسيس مع ما فيه من الخروج عن المعنى المتنازع فيه واستدل المفصل بين ألفاظ العبادات وغيرها بأن العبادات ماهيات مخترعة في الشرع بخلاف المعاملات وتوابعها كالبيع والصلح والهبة والدين والرهن والإجارة والعارية و الوديعة والغصب والقصاص والدية وغيرها فإنها باقية على حقائقها الأصلية إذ لم يتصرف الشارع فيها إلا بأن جعل لها شرائطا و أحكاما وذلك لا يقتضي اختلاف ماهيتها لان الشرط خارج عن حقيقة المشروط ومن هنا قالوا العبادات توقيفية دون المعاملات و أرادوا بذلك موضوعاتها بمعنى أن موضوعات العبادات تتوقف على بيان الشارع دون موضوعات المعاملات فإن المرجع فيها إلى العرف ولم يريدوا أحكامها فإن الاحكام كلها توقيفية لا بد فيها من الاخذ من الشارع وأجيب بمنع الاطراد في المقامين أما في العبادات فلان مثل لفظ الاحرام والطواف ونظائرهما باق على معناه الأصلي إذ لم يجعل الشارع لها إلا شرائط وهو لا يقتضي الاختلاف في الماهية وأما في غيرها فلان لفظ الخلع والمباراة والنكاح والايلاء و العدالة والفسق والطهارة والنجاسة والحدث وغيرها منقولات في الشرع إذ لم يعهد مفاهيمها من أهل اللغة وليست بألفاظ وفيه نظر لكن يرد أن مستند هذا القائل في ثبوت النقل في ألفاظ العبادات راجع إلى الوجوه المتقدمة وقد عرفت ما فيها حجة القول بالنفي وجوه الأول أصالة عدم وقوع النقل من الشارع لأنه حادث فيستصحب عدمه تمسك به جماعة كصاحب المعالم وغيره وهو إنما يقتضي نفي الحقيقة الشرعية في الظاهر دون الواقع كما يقتضيه الوجهان الاتيان الثاني أن الشارع لو نقلها إلى معانيها الشرعية لفهمها المخاطبين بها حيث إن الفهم شرط التكليف ولو فهمهم إياها لنقلوا إلينا لمشاركتنا لهم
(٤٤)