ولعل الخصم يتعسف فيكتفي في ترتب الذم والعقاب على فعل يتعلق التكليف بضده وهو كما ترى أو يلتزم بأن كلا من ماهية الوجوب والحرمة مركبة من مطلوبية شئ ومبغوضية شئ فوجوب الواجب مركب من مطلوبية الفعل ومبغوضية الكف وحرمة الحرام مركبة من مبغوضية الفعل ومطلوبية الكف فكما يصح ترتب الثواب على فعل المطلوب كذلك يصح ترتب العقاب على فعل المبغوض و يشكل هذا البيان بأن المطلوبية والمبغوضية صفتان متقابلتان كالفعل والترك فمتى اتصف أحدهما بإحداهما وجب بحكم التقابل أن يتصف الاخر بالأخرى فإذا اتصف الفعل بالمطلوبية لزم أن يتصف الترك بالمبغوضية على حسب مطلوبية الفعل وإذا اتصف الفعل بالمبغوضية وجب أن يتصف الترك بالمطلوبية على حسب مبغوضية الفعل وأما الكف فلا تقابل له مع الفعل فلا يجدي اتصافه بالوصف المقابل الخامس ما أورده في المعالم من أن تارك المنهي عنه كالزنا مثلا يعد في العرف ممتثلا ويمدحه العقلا على أنه لم يفعل من دون نظر إلى تحقق الكف عنه بل لا يكاد يخطر الكف ببال أكثرهم وذلك دليل على أن متعلق التكليف ليس هو الكف وإلا لم يصدق الامتثال ولم يحسن المدح على مجرد الترك هذا كلامه وفيه نظر يظهر مما سيأتي ولو قال تارك المنهي عنه لأجل النهي يعد ممتثلا بالترك ويمدح عليه تم وسلم عن الاشكال ولك أن تجعل هذا دليلا سادسا احتج الخصم بأن الترك عدم فلا يؤثر القدرة فيه فلا يتعلق التكليف به فلا يكون مطلوبا بالنهي فيتعين الحمل على الكف إذ لا يخرج عنهما اتفاقا وهو المطلوب والدليل على أن القدرة لا تتعلق بالعدم أن العدم نفي محض وهو لا يصلح أثرا للقدرة وأنه سابق على القدرة وتأثير المتأخر في المتقدم غير معقول وأنه مستمر أزلي والقدرة تستدعي أثرا متجددا يستند إليها لا يقال العدم قد يكون مسبوقا بالوجود كترك القيام بعد حصوله فهو متأخر عن القدرة متجدد بعدها فينتقض كلية الدعوى في الدليلين الأخيرين لأنا نقول الكلام في الاعدام الخاصة ولا ريب في أنها أزلية إذ عدم قيام زيد في وقت خاص مستمر من الأزل أو نقول إذا ثبت المقصود في الاعدام الأزلية ثبت في غيرها لعدم الفارق والجواب أن الترك ليس مجرد العدم بل جعله والتسبب له و نمنع من عدم كون العدم مقدورا كيف ولو لم يكن العدم مقدورا لم يكن الوجود أيضا مقدورا لتساوي نسبة القدرة إلى طرفي الوجود والعدم إذ القدرة على أحدهما خاصة اضطرار لا قدرة ودعوى أن العدم المحض لا يصلح أثرا للقدرة مصادرة وقد تحقق في محله أن أثرية كل أثر بحسبه مع أن المطلوب بالنهي جعل عدم لاحق للموجود وله عند بعض أهل المعقول حظ من الوجود الاعتباري باعتبار وجود منشأ الانتزاع وليس المراد أن العدم السابق على القدرة مستند إليها بل العدم المقارن فإن عدم الفعل قبل وجود الفاعل يستند إلى عدمه وعدم علمه وقدرته وإرادته وهذا غير مقدور له ولا مطلوب منه بالنهي وبعد وجوده ووجود علمه وقدرته يستند إلى عدم إرادته فقط وهذا مقدور له لاستناده في الحقيقة إلى القادر من حيث كونه قادرا وتوضيحه أن القادر المختار إذا علم ببعض مقدوراته الفعلية فلا بد له من أن يختار إما فعله فيريده أو تركه فلا يريده وليس له حينئذ حالة ثالثة فكل من إرادته وعدمها مستند إلى اختياره فيستند أثرهما إليه لا محالة أو نقول يكفي في استناد العدم إلى القدرة توقفه على عدم تعلقها برفعه عند حصول شرائطها وهذا القدر من الاستناد كاف في صحة التكليف به قطعا كما يكفي في صحة التكليف بمسبب مجرد القدرة على سببه المعد لحصوله على أن المراد بأزلية العدم إن كان أزليته بحسب الذات فممنوع لان الفعل ممكن والممكنات في حد ذواتها عرية عن وصفي الوجود والعدم وإن كان أزليته بحسب الزمان فدعوى عدم تأثير القدرة فيه مطلقا ممنوعة إلا أن هذا المنع إنما يتجه بالنسبة إلى القدرة الأزلية ومحل البحث إنما هو القدرة الحادثة وقد يجاب بأن أثر القدرة استمرار العدم لا نفس العدم ولا نسلم أن استمراره لا يصلح أثرا للقدرة لان القادر يمكنه أن لا يفعل فيستمر أو يفعل فلا يستمر فأثر القدرة إنما هو الاستمرار المقارن لها وهو مستند إليها و متجدد بها وفيه نظر لان استمرار العدم وبقاءه صفة له فيكون معدوما أيضا لا محالة فهو إذن بحكم العدم في عدم جواز تعلق القدرة والتكليف به على ما أفاده دليل الخصم فإن تم لزم عدم جواز تعلق التكليف به أيضا وإلا فلا مانع من تعلقه بنفس العدم فالتفرقة غير مسموعة مع أن الاستمرار غير معقول فيما إذا كان العدم مسبوقا بالفعل ودعوى أن الاعدام الخاصة أزلية كما سبقت لا جدوى لها هاهنا لظهور أنه لا يفهم من النهي طلب استمرار الاعدام الخاصة باعتبار كونها أزلية مع أن الخصوصية إن اعتبرت قيدا للعدم فهو حادث قطعا لانتفائه قبلها وإنما يتم دعوى أزلية الزمانية إن اعتبرت الخصوصية قيدا للمعدوم فقط على أن هذا مناف لما ذكر في الدعوى من تعلق الطلب بنفس العدم إذ على هذا البيان يلزم أن يكون المطلوب بالنهي استمراره لا نفسه وفيه أيضا خروج عن وضع الصيغة فإن المتبادر منها طلب ترك الطبيعة كما عرفت لا طلب استمرار الترك السابق ويمكن أن يتمسك في دفعه أيضا ببعض الوجوه التي أسلفناها في دفع القول بالكف وقد يستدل على القول المذكور بأن المطلوب بالنهي لو كان نفس العدم لزم أن يكون المكلف ممتثلا ومثابا بمجرد الترك ولو لغير الامتثال والتالي باطل أما الملازمة فلإتيانه بالمطلوب وأما بطلان التالي فبشهادة العرف و العقل وقد يضاف إلى ما ذكر في التالي حصول الامرين على تقدير الترك حال عدم القدرة على الفعل وهو خطأ لان التكليف بأنواعه لا يتعلق بالمكلف في غير حال القدرة والجواب لا نسلم أن الاتيان بالمطلوب بمجرده يوجب الامتثال بل إنما يوجبه إذا كان الداعي
(١٢١)