وقد بحث هذا الموضوع فضيلة شيخنا رحمة الله تعالى عليه في مذكرة الأصول وحاصله: إن الأمر إما مقيد بما يقتضي التكرار أو مطلق عنه: ثم قال: والحق أن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار بل يخرج من عهدته بمرة، ثم فصل رحمة الله تعالى عليه القول فيما اتفق عليه وما اختلف فيه، ومنه تعدد حكاية المؤذن وبحثها بأوسع في الأضواء عن تعدد الفدية في الحج، والواقع أن سبب الخلاف فيما اختلف فيه إنما هو من باب تحقيق المناط هل السبب المذكور مما يقتضي التعدد أم لا؟
والأسباب في هذا الباب ثلاثة أقسام، قسم يقتضي التكرار قطعا، وقسم لا يقتضيه قطعا، وقسم هو محل الخلاف.
فمن الأسباب المقتضية التكرار قطعا: ما لو ولد له توأمان فإن عليه عقيقتين، ومنها: لو ضرب حاملا فأجهضت جنينين لوجبت عليه غرتان.
ومن الأسباب التي لا تقتضي التكرار ما لو أحدث عدة أحداث من نواقض الوضوء فأراد أن يتوضأ فإنه لا يكرر الوضوء بعدد الأحداث، ويكفي وضوء واحد، وكذلك موجبات الغسيل لو تعدت قبل أن يغتسل فإنه يكفيه غسل واحد عن الجميع.
ومما اختلف فيه ما كان دائرا بين هذا وذاك، كما لو ظاهر من عدة زوجات هل عليه كفارة واحدة نظرا لما أوقع من ظهار أم عليه عدة كفارات نظرا لعدد ظاهر منهن؟ وكذلك إذا ولغ عدة كلاب في إناء هل يعفر الإناء مرة واحدة، أم يتعدد التعفير لتعدد الولوغ من عدة كلاب؟
ومن ذلك ما قالوه في إجابة المؤذن إذا تعدد المؤذنون تعددت الأسباب، فهل تتعدد الإجابة أم يكتفي بإجابة واحدة. تقدم قول النووي أنه لم يجد شيئا لأصحابه، وكلام العز بن عبد السلام بتعدد الإجابة وبالنظر الأصولي، نجد تعدد المؤذنين ليس كتعدد نواقض الوضوء لأن المتوضىء إذا أحدث ارتفع وضوءه وليس عليه أن يتوضأ لهذا الحدث، فإذا أحدث مرة أخرى لم يقع هذا الحدث الثاني على طهر ولم يجد حدثا آخر.
وهكذا مهما تعددت الأحداث، فإذا أراد الصلاة كان عليه أن يرفع حدثه فيكفي فيه وضوء واحد، ولكن مستمع المؤذن حينما سمع المؤذن الأول فهو مطالب بمحاكاته، فإن فرغ منه وسمع مؤذنا آخر، فإن من حق هذا المؤذن الآخر أن يحاكيه، ولا علاقة لأذان هذا بذاك، فهو من باب تجدد السبب وتعدده أو هو إليه أقرب، كما لو سمع أذان الظهر فأجابه ثم سمع أذان العصر فلا يكفي عنه إجابة أذان الظهر، فإن قيل: قد اختلف الوقت وجاء أذان جديد، فيقال قد اختلف المؤذن فجاء أذان جديد.
وأقرب ما يكون لهذه المسألة مسألة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره في حديث قوله صلى الله عليه وسلم (آمين آمين) ثلاث مرات وهو يصعد المنبر، ولما سئل عن ذلك قال: (أتاني جبريل فقال يا محمد من ذكرت عنده ولم يصل عليك باعده الله في النار فقل: آمين فقلت آمين)، وذكر بقية المسائل فإن بهذا يتعين تكرار الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند كل ما يسمع ذكره صلوات الله وسلامه عليه، وهنا عليه تكرار محاكاة المؤذن، كما رجحه ابن عبد السلام والله تعالى أعلم.
تنبيه وإذا سمع المؤذن وهو في صلاة فلا يقول مثل ما يقول المؤذن، وإذا كان في قراءة أو دعاء أو ذكر خارج الصلاة، فإنه يقطعه ويقول مثل قول المؤذن.
قاله ابن تيمية في الفتاوى وابن قدامة في المغني، والنووي في المجموع.
تنبيه ولا يجوز النداء للصلاة جمعة أو غيرها من الصلوات الخمس إلا بهذه الألفاظ المتقدم ذكرها، وما عداها مما أدخله الناس لا أصل له، كالتسبيح قبل الفجر، والتسبيح والتحميد والتكبير يوم الجمعة بما يسمى (بالتطليع) ونحوه فكل هذا لا نص عليه ولا أصل له.
وقد نص في فتح الباري ردا على ابن المنير، حيث جعل بعض الهيئات أو الأقوال من مكملات الإعلام، فقال ابن حجر: وأغرب ابن المنير ولو كان ما قاله على إطلاقه لكان ما أحدث من التسبيح قبل الصبح وقبل الجمعة، ومن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من جملة الأذان، وليس كذلك لا لغة ولا شرعا.
وفي الحاشية للشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز تعليق على كلام ابن المنير بقوله هذا فيه نظر. والصواب أن ما أحدثه الناس من رفع الصوت بالتسبيح قبل الأذان والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعده، كما أشار إليه الشارع بدعة يجب على ولاة الأمر إنكارها حتى لا يدخل في الأذان ما ليس منه، وفيما شرعه الله غنية وكفاية عن المحدثات، فتنبه.
وقال في الفتح أيضا ما نصه: وما أحدث الناس قبل وقت الجمعة من الدعاء إليها بالذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهو في بعض البلاد دون بعض، واتباع السلف الصالح أولى، وقال ابن الحاج في المدخل جلد 2 ص 452، وينهي المؤذنين عما أحدثوه من التسبيح بالليل، وإن كان ذكر الله تعالى حسنا وعلنا لكن في المواضع التي تركها الشارع صلوات الله وسلامه عليه، ولم يعين فيها شيئا معلوما.
وقال بعده بقليل: وكذلك ينبغي أن ينهاهم عما أحدثوه من صفة الصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم عند طلوع الفجر، وإن كانت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من أكبر العبادات