وأما الدليل على أن شدة الشبق عذر، كذلك هو ما جاء في حديث سلمة بن صخر الذي تكلمنا عليه سابقا في هذا المبحث، أنه قال: كنت امرءا قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري، فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان، فرقا من أن أصيب في ليلتي شيئا فأتتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار، الحديث. وفيه قال: (فصم شهرين متتابعين)، قال: قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل أصابني ما أصابني إلا في الصوم؟ قال: (فتصدق). ومحل الشاهد منه أنه لما قال له: (صم شهرين)، أخبره أن جماعه في زمن الظهار، إنما جاءه من عدم صبره عن الجماع؛ لأنه ظاهر من امرأته خوفا من أن تغلبه الشهوة، فيجامع في النهار، فلما ظاهر غلبته الشهوة فجامع في زمن الظهار، فاقتنع صلى الله عليه وسلم بعذره، وأباح له الانتقال إلى الإطعام، وهذا ظاهر.
وقال ابن قدامة في (المغني): بعد أن ذكر أن الهرم والشبق كلاهما من الأسباب المؤدية للعجز عن الصوم، للدليل الذي ذكرنا آنفا، وقسنا عليهما ما يشبههما في معناهما.
الفرع الثالث عشر: أظهر قولي أهل العلم عندي: أنه لا يجزئ في الإطعام أقل من إطعام ستين مسكينا وهو مذهب مالك، والشافعي. والمشهور من مذهب أحمد خلافا لأبي حنيفة القائل: بأنه لو أطعم مسكينا واحدا ستين يوما أجزأه، وهو رواية عن أحمد، وعلى هذا يكون المسكين في الآية مأولا بالمد، والمعنى: فإطعام ستين مدا، ولو دفعت لمسكين واحد في ستين يوما.
وإنما قلنا: إن القول بعدم إجزاء أقل من الستين هو الأظهر؛ لأن قوله تعالى: * (مسكينا) * تمييز لعدد هو الستون، فحمله على مسكين واحد خروج بالقرءان عن ظاهره المتبادر منه بغير دليل يجب الرجوع إليه، وهو لا يصح، ولا يخفى أن نفع ستين مسكينا أكثر فائدة من نفع مسكين واحد في ستين يوما، لفضل الجماعة، وتضافر قلوبهم على الدعاء للمحسن إليهم بالإطعام، فيكون ذلك أقرب إلى الإجابة من دعاء واحد، وستون جمع كثير من المسلمين لا يخلو غالبا من صالح مستجاب الدعوة فرجاء الاستجابة فيهم أقوى منه في الواحد، كما لا يخفى. وعلى كل حال، فقوله تعالى في محكم كتابه: * (فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا) *، لا يخفى فيه أن قوله: * (فإطعام ستين) * مصدر مضاف إلى مفعوله، فلفظ: * (ستين) * الذي أضيف إليه المصدر هو عين المفعول به الواقع عليه الإطعام، وهذا العدد الذي هو المفعول به للإطعام، مبين بالتمييز الذي هو قوله تعالى: