أضواء البيان - الشنقيطي - ج ٦ - الصفحة ١٦٦
تنبيه اعلم أنه يجب على كل مسلم في هذا الزمان أن يتدبر آية (الروم) هذه تدبرا كثيرا، ويبين ما دلت عليه لكل من استطاع بيانه له من الناس.
وإيضاح ذلك أن من أعظم فتن آخر الزمان التي ابتلى الله بها ضعاف العقول من المسلمين، شدة إتقان الإفرنج لأعمال الحياة الدنيا، ومهارتهم فيها على كثرتها، واختلاف أنواعها مع عجز المسلمين عن ذلك، فظنوا أن من قدر على تلك الأعمال أنه على الحق، وأن من عجز عنها متخلف وليس على الحق، وهذا جهل فاحش، وغلط فادح. وفي هذه الآية الكريمة إيضاح لهذه الفتنة، وتخفيف لشأنها أنزله الله في كتابه قبل وقوعها بأزمان كثيرة، فسبحان الحكيم الخبير ما أعلمه، وما أعظمه، وما أحسن تعليمه.
فقد أوضح جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن * (أكثر الناس لا يعلمون) *، ويدخل فيهم أصجاب هذه العلوم الدنيوية دخولا أوليا، فقد نفى عنهم جل وعلا اسم العلم بمعناه الصحيح الكامل، لأنهم لا يعلمون شيئا عمن خلقهم، فأبرزهم من العدم إلى الوجود، ورزقهم، وسوف يميتهم، ثم يحييهم، ثم يجازيهم على أعمالهم، ولم يعلموا شيئا عن مصيرهم الأخير الذي يقيمون فيه إقامة أبدية في عذاب فظيع دائم، ومن غفل عن جميع هذا فليس معدودا من جنس من يعلم؛ كما دلت عليه الآيات القرءانية المذكورة، ثم لما نفى عنهم جل وعلا اسم العلم بمعناه الصحيح الكامل، أثبت لهم نوعا من العلم في غاية الحقارة بالنسبة إلى غيره.
وعاب ذلك النوع المذكور من العلم، بعيبين عظيمين:
أحدهما: قلته وضيق مجاله، لأنه لا يجاوز * (ظاهرا من الحيواة الدنيا) *، والعلم المقصور على ظاهر من الحياة الدنيا في غاية الحقارة، وضيق المجال بالنسبة إلى العلم بخالق السماوات والأرض جل وعلا، والعلم بأوامره ونواهيه، وبما يقرب عبده منه، وما يبعده عنه، وما يخلد في النعيم الأبدي والعذاب الأبدي، من أعمال الخير والشر.
والثاني منهما: هو دناءه هدف ذلك العلم، وعدم نبل غايته، لأنه لا يتجاوز الحياة الدنيا، وهي سريعة الانقطاع والزوال، ويكفيك من تحقير هذا العلم الدنيوي أن أجود
(١٦٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 161 162 163 164 165 166 167 168 169 170 171 ... » »»