أضواء البيان - الشنقيطي - ج ٥ - الصفحة ٢٧٧
وبالتحقيق الذي ذكرنا: تعلم أن الوعد يطلق في الخير والشر كما بينا، وإنما شاع على ألسنة كثير من أهل التفسير، من أن الوعد لا يستعمل إلا في الوعد بخير وأنه هو الذي لا يخلفه الله، وأما إن كان المتوعد به شرا، فإنه وعيد وإيعاد. قالوا: إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما، وعن الإيعاد كرما، وذكروا عن الأصمعي أنه قال: كنت عند أبي عمرو بن العلاء، فجاءه عمرو بن عبيد فقال: يا أبا عمرو، هل يخلف الله الميعاد؟ فقال: لا، فذكر آية وعيد، فقال له: أمن العجم أنت؟ إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما وعن الإيعاد كرما، أما سمعت قول الشاعر:
* ولا يرهب ابن العم والجار سطوتي * ولا انثنى عن سطوة المتهدد * * فإني وإن أوعدته أو وعدته * لمخلف إيعادي ومنجز موعدي * فيه نظر من وجهين.
الأول: هو ما بيناه آنفا من إطلاق الوعد في القرآن على التوعد بالنار، والعذاب كقوله تعالى: * (النار وعدها الله الذين كفروا) * وقوله تعالى: * (ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده) * لأن ظاهر الآية الذي لا يجوز العدول عنه، ولن يخلف الله وعده في حلول العذاب الذي يستعجلونك به بهم، لأنه مقترن بقوله: * (ويستعجلونك بالعذاب) * فتعلقه به هو الظاهر.
الثاني: هو ما بينا أن ما أوعد الله به الكفار لا يصح أن يخلفه بحال، لأن ادعاء جواز إخلافه، لأنه إيعاد وأن العرب تعد الرجوع عن الإيعاد كرما يبطله أمران:
الأول: أنه يلزمه جواز ألا يدخل النار كافر أصلا، لأن إيعادهم بإدخالهم النار مما زعموا أن الرجوع عنه كرم، وهذا لا شك في بطلانه.
الثاني: ما ذكرنا من الآيات الدالة: على أن الله لا يخلف ما أوعد به الكفار من العذاب كقوله: * (قال لا تختصموا لدى وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدى) * وقوله تعالى فيهم: * (فحق وعيد) * وقوله فيهم: * (فحق عقاب) * ومعنى حق: وجب وثبت، فلا وجه لانتفائه بحال، كما أوضحناه هنا وفي غير هذا الموضع.
قوله تعالى: * (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) *. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن اليوم عنده جل وعلا كألف سنة مما يعده خلقه، وما ذكره هنا من كون اليوم عنده كألف سنة، أشار إليه في سورة السجدة بقوله: * (يدبر الا مر من السمآء إلى الا رض ثم يعرج إليه فى يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) * وذكر في سورة المعارج أن مقدار اليوم خمسون ألف سنة وذلك في قوله: * (تعرج الملائكة والروح إليه فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) *. فآية الحج، وآية السجدة متوافقتان تصدق كل واحدة منهما الأخرى، وتماثلها في المعنى. وآية المعارج تخالف ظاهرهما لزيادتها عليهما بخمسين ضعفا. وقد ذكرنا وجه الجمع بين هذه الآيات في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب، عن آيات الكتاب. وسنذكره إن شاء ال
(٢٧٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 272 273 274 275 276 277 278 279 280 281 282 ... » »»