أضواء البيان - الشنقيطي - ج ٤ - الصفحة ٣٧١
منها: حديث ابن عمر المتفق عليه، وقد قدمناه في هذا المبحث، وفيه: وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج وهو تصريح منه رضي الله عنه، بأنه أهل بالعمرة قبل الحج ومنها: حديث عمر رضي الله عنه عند البخاري، وقد قدمناه أيضا وفيه (وقل عمرة في حجة) وكان ذلك بالعقيق قبل إحرامه، وأهل هذا القول جمعوا بين الأحاديث الواردة بالإفراد، والأحاديث الواردة بالقران، والأحاديث الواردة بالتمتع، بغير الجمع الذي ذكرناه عن القائلين بأفضلية الإفراد، وهو أن وجه الجمع أن المراد بالإفراد: إفراد أعمال الحج، لأن القارن يفعل في أعمال الحج كما يفعله الحاج المفرد، فيطوف لهما طوافا واحدا، ويسعى لهما سعيا واحدا، على أصح الأقوال، وأقواها دليلا. وأما جوابهم عن أحاديث التمتع فواضح لأن الصحابة يطلقون التمتع على القراآن كما قدمنا في حديث عمران بن حصين، وكما يدل له ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما، عن سعيد بن المسيب قال: اجتمع عثمان وعلي رضي الله عنهما، وكان عثمان ينهي عن المتعة فقال علي ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه فقال عثمان: دعنا منك فقال: إني لا أستطيع أن أدعك، فلما رأى ذلك علي أهل بهما جميعا. فهذا يبين: أن من جمع بينهما كان متمتعا عندهم، وأن هذا هو الذي فعله صلى الله عليه وسلم، وأقره عثمان، على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، لكن الخلاف بينهما في الأفضل من ذلك.
ومما يدل على أن القارن متمتع عندهم حديث ابن عمر المتفق عليه الذي قدمناه في هذا المبحث فإن في لفظه عند الشيخين (تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى، فساق الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج) فتراه صرح بأن مراده بالتمتع القران. المسألة الخامسة اعلم: أن حجة من قال: بأن التمتع أفضل مطلقا، ومن قال: بأنه أفضل لمن لم يسق الهدي، وكلاهما مروي عن الإمام أحمد هي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر جميع أصحابه، الذين لم يسوقوا هديا أن يفسخوا حجهم في عمرة. كما هو ثابت عن جماعة من الصحابة بروايات صحيحة لا مطعن فيها، وتأسف هو صلوات الله وسلامه عليه، على سوقه للهدي الذي كان سببا لعدم تحلله بالعمرة معهم. قالوا: لو لم يكن التمتع هو أفضل الأنساك، لما أمر به أصحابه، ولما تأسف على أنه لم يفعله في قوله (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة).
تنبيهات الأول: اعلم أن دعوى من ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعا التمتع المعروف، وأنه حل من عمرته، ثم أحرم للحج باطلة بلا شك. وقد ثبت بالروايات الصحيحة التي لا مطعن فيها: أنه كان قارنا، وأنه لم يحل حتى نحر هديه، كما قدمناه في هذا المبحث في حديث أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها، وعن أبيها.
فإن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم في حديثها المتفق عليه قال (إني لبدت رأسي، وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر) والأحاديث بمثله كثيرة. وسبب غلط من ادعى الدعوى الباطلة المذكورة، هو ما أخرجه مسلم في صحيحه:
حدثنا عمرو الناقد، حدثنا سفيان بن عيينة، عن هشام بن حجير، عن طاوس قال: قال ابن عباس: قال معاوية: أعلمت أني قصرت من رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، عند المروة بمشقص قلت له: لا أعلم هذا إلا حجة عليك. وحدثني محمد بن حاتم، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، حدثني الحسن بن مسلم، عن طاوس، عن ابن عباس: أن معاوية بن أبي سفيان أخبره قال: قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص وهو على المروة، أو رأيته يقصر عنه بمشقص، وهو على المروة. انتهى منه وأخرج البخاري هذا الحديث عن معاوية بلفظ: قال قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص، فالاستدلال بهذا الحديث، على أن النبي أحل بعمرة في حجة الوداع غلط فاحش مردود من وجهين.
الأول: أنه ليس في الحديث المتفق عليه ذكر حجة الوداع، ولا شيء يدل على أن ذلك التقصير كان فيها.
الثاني: ورود الرواية الصحيحة التي لا مطعن فيها أنه لم يحل إلا بعد الرجوع من عرفات، بعد أن نحر هديه. وقال النووي في كلامه على حديث معاوية هذا، وهذا الحديث محمول على أنه قصر عن النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الجعرانة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان قارنا كما سبق إيضاحه، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم حلق بمنى، وفرق أبو طلحة رضي الله عنه شعره بين الناس فلا يجوز حمل تقصير معاوية على حجة الوداع، ولا يصح حمله أيضا على عمرة القضاء الواقعة سنة سبع من الهجرة، لأن معاوية لم يكن يومئذ مسلما، إنما أسلم يوم الفتح سنة ثمان، هذا هو الصحيح المشهور، ولا يصح قول من حمله على حجة الوداع، وزعم أنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعا، لأن هذا غلط فاحش فقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة السابقة في مسلم وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت؟ قال (إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر الهدي) وفي رواية (حتى أحل من الحج) والله تعالى أعلم انتهى كلام النووي ولا شك أن حمل حديث معاوية على حجة الوداع، لا يصح بحال والعلم عند الله تعالى.
التنبيه الثالث اعلم أن دعوى من ادعى كنه لم يحل بعمرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، إلا من أحرم بالعمرة وحدها، وأن من أهل بحج، أو جمع الحج والعمرة لم يحل أحد منهم، حتى كان يوم النحر دعوى باطلة أيضا لأن الروايات الصحيحة التي لا مطعن فيها عن جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم متظاهرة، بكل الوضوح والصراحة أن النبي صلى الله عليه وسلم، أمر كل من لم يكن معه هدي، أن يحل بعمرة، سواء كان مفردا أو قارنا، ومستند من ادعى تلك الدعوى الباطلة، هو ما أخرجه مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمان بن نوفل، عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بالحج، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج. فأما من أهل بعمرة فحل، وأما من أهل بحج أو جمع الحج والعمرة فلم يحلوا، حتى كان يوم النحر انتهى منه لأن الذين لم يحلوا من القارنين، والمفردين في هذا الحديث ونحوه من الأحاديث يجب حملهم، على أن معهم الهدي لأجل الروايات الصحيحة المصرحة بذلك وبأن من لم يكن معهم هدي فسخوا حجهم في عمرة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
التنبيه الرابع اعلم أن دعوى من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، أحرم إحراما مطلقا، ولم يعين نسكا، وأنه لم يزل ينتظر القضاء، حتى جاءه القضاء بين الصفا والمروة أنها دعوى غير صحيحة، وإن قال الإمام الشافعي: في اختلاف الحديث، إن ذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الروايات المتواترة المصرحة، بأنه صلى الله عليه وسلم عين ما أحرم به من ذي الحليفة، من إفراد، أو قران، أو تمتع، لا تمكن معارضتها لقوتها، وتواترها، واتفاق جميعها على تعيين الإحرام من ذي الحليفة، وإن اختلف في نوعه، ومستند من ادعى تلك الدعوى أحاديث جاءت يفهم من ظاهرها ذلك منها حديث عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نذكر حجا، ولا عمرة. وفي لفظ يلبي. ولا يذكر حجا ولا عمرة، ونحو ذلك من الأحاديث، وهذا لا تعارض به تلك الروايات الصحيحة المتواترة. وقد أجاب العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد عن الأحاديث التي استدل بها من ادعى الدعوى المذكورة، فأفاد وأجاد، والعلم عند الله تعالى.
تنبيه الخامس اعلم أن الأحاديث الواردة بأنه كان مفردا والواردة بأنه كان قارنا والواردة بأنه كان متمتعا لا يمكن الجمع البتة بينها إلا الواردة منها بالتمتع، والواردة بالقران، فالجمع بينهما واضح، لأن الصحابة كانوا يطلقون اسم التمتع على القران، كما هو معروف عنهم، ولا يمكن النزاع فيه، مع أن أمره صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتمتع، قد يطلق عليه أنه تمتع لأن أمره بالشيء كفعله إياه أما الواردة بالإفراد فلا يمكن الجمع بينها بحال، مع الأحاديث الواردة بالتمتع والقران فادعاء إمكان الجمع بينها غلط، وإن قال به خلق لا يحصى من أجلاء العلماء.
واختلفوا في وجه الجمع على قولين كما أوضحناه، فمنهم من جمع بأن أحاديث الإفراد، يراد بها: أنه أحرم أولا مفردا، وأحاديث القران يراد بها: أنه بعد إحرامه مفردا أدخل العمرة على الحج، فصار قارنا فصدق هؤلاء باعتبار أول الأمر، وصدق هؤلاء باعتبار آخره، مع أن أكثرهم يقولون: إن إدخال العمرة على الحج خاص به صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز لغيره، وهذا الجمع قال به أكثر المالكية، والشافعية. وقال النووي: لا يجوز العدول عنه، ومنهم من جمع بأن أحاديث الإفراد يراد بها: إفراد أعمال الحج، والقارن يعمل في سعيه وطوافه، كعمل المفرد على أصح الأقوال وأقواها دليلا وكلا الجميعين غلط، مع كثرة وجلالة من قال به من العلماء. وإنما قلنا: إنهما كليهما غلط لأن المعروف في أصول الفقه، وعلم الحديث أن الجمع لا يمكن بين نصين متناقضين تناقضا صريحا، بل الواجب بينهما الترجيح، وإنما يكون الجمع بين نصين، لم يتناقضا تناقضا صريحا فيحمل كل منهما على محمل، ليس في الآخر التصريح بنقيضه، فيكونان صادقين، ولأجل هذا
(٣٧١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 367 368 369 370 371 371 372 373 374 375 376 ... » »»