منى وذكر أحدنا يقطر؟ فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت) الحديث. هذا لفظ البخاري رحمه الله، فقولهم في هذا الحديث الصحيح بعد أن أمرهم صلى الله عليه وسلم، أن يحلوا ننطلق إلى منى، وذكر أحدنا يقطر: يدل على شدة نفرتهم من الإحلال بعمرة في زمن الحج كما ترى. وذلك يؤكد الاحتياج إلى تأكيد بيان الجواز. وهذا الحديث الصحيح يدفع الاحتمال الذي في حديث ابن عباس المتقدم: لأن قوله (فتعاظم ذلك عندهم) يحتمل أن يكون موجب التعاظم، أنهم كانوا أولا محرمين بحج، ويدل لهذا الاحتمال حديث جابر الثابت في الصحيح: أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه، وقد أهلوا بالحج مفردا، فقال لهم: (أحلوا من إحرامكم بطواف البيت). الحديث. وفيه فقالوا: كيف نجعلها متعة، وقد سمينا الحج إلى آخر الحديث ، فهذا الحديث يدل على أنهم إنما صعب عليهم الإحلال بالعمرة، لأنهم قد سموا الحج، لا لأن ما كان في نفوسهم من أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، لم يزل باقيا إلى ذلك الوقت، لأن حديث جابر المذكور، أعني قوله: فقالوا ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر، لا يحتمل هذا الاحتمال، بل معناه: أن تعاظم الإحلال بعمرة عندهم، لأنه في وقت الحج كما بينا، وهو يدل على أن ذلك هو المراد من هذا الحديث الأخير، وأنه ليس المراد الاحتمال المذكور، كما جزم به ابن حجر في الفتح في كلامه على الحديث الذي ذكرناه عنه آنفا.
الأول: منها حديث ابن عباس المتفق عليه، الذي قدمناه قال: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج، من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفرا، ويقولون: إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله أي الحل؟ قال (الحل كله) قالوا: فقوله في هذا الحديث المتفق عليه: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، وترتيبه بالفاء على ذلك قوله: فأمرهم أن يجعلوها عمرة ظاهر كل الظهور في أن السبب الحامل له صلى الله عليه وسلم على أمرهم: أن يجعلوا حجهم عمرة، هو أن يزيل من نفوسهم بذلك اعتقادهم أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، فالفسخ لبيان الجواز كما دل عليه هذا الحديث المتفق عليه، لا لأن الفسخ في حد ذاته أفضل، وقد تقرر في مسلك النص، ومسلك الإيماء والتنبيه أن الفاء من حروف: التعليل، كما قدمناه مرارا قالوا: فقول من زعم أن قوله في الحديث المذكور كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، لا ارتباط بينه، وبين قوله: فأمرهم أن يجعلوها عمرة ظاهر السقوط كما ترى، لأنه لو لم يقصد به ذلك، لكان ذكره قليل الفائدة.
ومما يدل على ذلك ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا هناد بن السري، عن ابن أبي زائدة، ثنا ابن جرير، ومحمد بن إسحاق، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك، فإن هذا الحي من قريش، ومن دان دينهم، كانوا يقولون: إذا عفا الوبر وبرأ الدبر ودخل صفر، فقد حلت العمرة لمن اعتمر. فكانوا يحرمون العمرة، حتى ينسلخ ذو الحجة والمحرم ا ه.
وقد بين الحافظ البيهقي رحمه الله تعالى في السنن الكبرى: أن حديث ابن عباس المتفق عليه المذكور، دال على ذلك، ولا ينافي ذلك أن ابن عباس رضي الله عنهما يرى فسخ الحج في العمرة لازما، لأنه لا مانع من أن يكون يعلم أن الفسخ لبيان الجواز المذكور، كما دل عليه حديثه، وهو يرى بقاء حكمه، ولو كان سببه الأول بيان الجواز ولكن غيره من الخلفاء الراشدين وغيرهم من المهاجرين والأنصار خالفوه في رأيه ذلك.
الدليل الثاني من أدلتهم: على أن فسخ الحج في العمرة المذكور لبيان الجواز، وأنه خاص بذلك الركب، وتلك السنة، هو ما جاء من الأحاديث دالا على ذلك، قال أبو داود في سننه: حدثنا النفيلي، ثنا عبد العزيز يعني ابن محمد، أخبرني ربيعة بن أبي عبد الرحمان، عن الحارث بن بلال بن الحارث، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أو لمن بعدنا؟ قال: (بل لكم خاصة) ا ه.
وقال النسائي في سننه: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنبأنا عبد العزيز، وهو الدراوردي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمان، عن الحارث بن بلال، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله أفسخ الحج لنا خاصة، أم للناس عامة؟ قال (بل لنا خاصة) ا ه.
وقال ابن ماجة في سننه: حدثنا أبو مصعب، ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمان، عن الحارث بن بلال بن الحارث، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت فسخ الحج في العمرة لنا خاصة أم للناس عامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بل لنا خاصة).
وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه: وحدثنا سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب قالوا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش عن إبراهيم التيمي، عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة. وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الرحمان بن مهدي، عن سفيان، عن عياش العامري، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كانت لنا رخصة يعني: المتعة في الحج. وحدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن فضيل، عن زبيد، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: قال أبو ذر رضي الله عنه: لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة، يعني متعة النساء، ومتعة الحج، حدثنا قتيبة، حدثنا جرير، عن بيان، عن عبد الرحمان بن أبي الشعثاء، قال: أتيت إبراهيم النخعي، وإبراهيم التيمي فقلت: إني أهم أن أجمع العمرة والحج العام، فقال إبراهيم النخعي: لكن أبوك لم يكن ليهم بذلك، قال قتيبة: حدثنا جرير، عن بيان، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه: أنه مر بأبي ذر رضي الله عنه بالربذة فذكر ذلك له فقال: إنما كانت لنا خاصة دونكم. وقال البيهقي وغيره من الأئمة: مراد أبي ذر بالمتعة المذكورة: المتعة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها أصحابه رضي الله عنهم وهي فسخ الحج في العمرة. واستدلوا على أن الفسخ المذكور: هو مراد أبي ذر رضي الله عنه بما رواه أبو داود في سننه: حدثنا هناد، يعني ابن السري، عن ابن أبي زائدة: أخبرنا محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمان بن الأسود، عن سلم بن الأسود: أن أبا ذر كان يقول فيمن حج ثم فسخها بعمرة: لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: فهذه الرواية التي في سنن أبي داود فيها التصريح من أبي ذر رضي الله عنه، بفسخ الحج في العمرة وهي تفسر مراده بالمتعة في رواية مسلم، وضعفت رواية أبي داود هذه، بأن ابن إسحاق المذكور فيها مدلس. وقد قال عن عبد الرحمان بن الأسود: وعنعنة المدلس لا تقبل عند أهل الحديث، حتى يصح السماع من طريق أخرى. ويجاب عن تضعيف هذه الرواية من جهتين: