النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الروايات المتواترة المصرحة، بأنه صلى الله عليه وسلم عين ما أحرم به من ذي الحليفة، من إفراد، أو قران، أو تمتع، لا تمكن معارضتها لقوتها، وتواترها، واتفاق جميعها على تعيين الإحرام من ذي الحليفة، وإن اختلف في نوعه، ومستند من ادعى تلك الدعوى أحاديث جاءت يفهم من ظاهرها ذلك منها حديث عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نذكر حجا، ولا عمرة. وفي لفظ يلبي. ولا يذكر حجا ولا عمرة، ونحو ذلك من الأحاديث، وهذا لا تعارض به تلك الروايات الصحيحة المتواترة. وقد أجاب العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد عن الأحاديث التي استدل بها من ادعى الدعوى المذكورة، فأفاد وأجاد، والعلم عند الله تعالى.
تنبيه الخامس اعلم أن الأحاديث الواردة بأنه كان مفردا والواردة بأنه كان قارنا والواردة بأنه كان متمتعا لا يمكن الجمع البتة بينها إلا الواردة منها بالتمتع، والواردة بالقران، فالجمع بينهما واضح، لأن الصحابة كانوا يطلقون اسم التمتع على القران، كما هو معروف عنهم، ولا يمكن النزاع فيه، مع أن أمره صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتمتع، قد يطلق عليه أنه تمتع لأن أمره بالشيء كفعله إياه أما الواردة بالإفراد فلا يمكن الجمع بينها بحال، مع الأحاديث الواردة بالتمتع والقران فادعاء إمكان الجمع بينها غلط، وإن قال به خلق لا يحصى من أجلاء العلماء.
ويبين أيضا: أن ذلك هو معنى حديث جابر عند مسلم، حيث قال رحمه الله في صحيحه: حدثنا ابن نمير، حدثني أبي، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة فكبر ذلك علينا، وضاقت به صدورنا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فما ندري أشيء بلغه من السماء، أم شيء من قبل الناس؟ فقال (أيها الناس أحلوا فلولا أن معي الهدي فعلت كما فعلتم) الحديث.
فقول جابر رضي الله عنه في هذا الحديث الصحيح: فكبر ذلك علينا، وضاقت به صدورنا، يدل على أن ما كان في نفوسهم من كراهة العمرة في أشهر الحج، لم يزل ولولا ذلك لما كبر عليهم، ولا ضاقت صدورهم بالإحلال بعمرة في أشهر الحج، كما أوضحه حديثه المذكور أيضا. وعلى هذا الذي ذكروه، فالذي استدبره من أمره، ولو استقبله لم يسق الهدي: هو ملاحظة البيان المذكور، وإن كان قد بين ذلك سابقا لاحتياجه إلى تأكيد البيان في مثل ذلك الجمع، وهو مودع، ولا ينافي ذلك أنه أمر القارنين بالفسخ المذكور مع أن العمرة المقرونة مع الحج فيها البيان المذكور، لأن العمرة المفردة عن الحج أبلغ في البيان، لأنها ليست مع الحج، فهي مستقلة عنه فلا يحتمل أنها إنما جازت تبعا له. وقد أوضحنا في هذا الكلام حجة من قال من أهل العلم: بتفضيل الإفراد على غيره، من أنواع النسك، وجوابهم عما جاء من الأحاديث دالا على أفضلية القران أو التمتع، ووجه جمعهم بين الأحاديث الصحيحة التي ظاهرها الاختلاف في حجة النبي صلى الله عليه وسلم.
المسألة الرابعة ذهب جماعة من أهل العلم، إلى أن القران هو أفضل أنواع النسك، وممن قال بهذا: أبو حنيفة، وأصحابه، وسفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه، والمزني، وابن المنذر، وأبو إسحاق المروزي، كما نقله عنهم النووي في شرح المهذب، واحتج أهل هذا القول بأحاديث كثيرة، دالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا في حجته.
منها: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال (تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة، ثم أهل الحج) الحديث أخرجاه بهذا اللفظ.
ومنها: ما أخرجه الشيخان متصلا بحديث ابن عمر هذا من طريق عروة بن الزبير، عن عائشة: أنها أخبرته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث ابن عمر المذكور سواء.
ومنها: ما رواه مسلم والبخاري في صحيحيهما، من حديث قتيبة، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر (أنه قرن الحج إلى العمرة، وطاف لهما طوافا واحدا) ثم قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنها: ما رواه الشيخان، عن عمران بن حصين الخزاعي رضي الله عنهما، قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله، يعني متعة الحج، وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج، ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، قال رجل برأيه ما شاء الحديث، هكذا لفظ مسلم في صحيحه في بعض رواياته لهذا الحديث، ولفظ البخاري قريب منه بمعناه في التفسير، وفي الحج. ومراد عمران بن حصين رضي الله عنهما بالتمتع المذكور: القران بدليل الروايات الصحيحة الثابتة في صحيح مسلم، وغيره المصرحة بذلك.
قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: وحدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن حميد بن هلال، عن مطرف قال: قال لي عمران بن حصين: أحدثك حديثا عسى الله أن ينفعك به: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حجة وعمرة، ثم لم ينه عنه، حتى مات، ولم ينزل فيه قرآن يحرمه، وقد كان يسلم علي حتى اكتويت فتركت، ثم تركت الكي فعاد.
حدثناه محمد بن المثنى وابن بشار، قالا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن حميد بن هلال، قال: سمعت مطرفا قال: قال لي عمران بن حصين: بمثل حديث معاذ.
وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار. قال ابن المثنى: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن قتادة، عن مطرف: قال: بعث إلى عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه، فقال: إني كنت محدثك بأحاديث لعل الله أن ينفعك بها بعدي، فإن عشت فاكتم عني، وإن مت فحدث بها إن، شئت إنه قد سلم علي، واعلم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد جمع بين حج وعمرة، ثم لم ينزل فيها كتاب الله، ولم ينه عنها نبي الله صلى الله عليه وسلم، قال رجل برأيه ما شاء.
وحدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جمع بين حج وعمرة، ثم لم ينزل فيها كتاب، ولم ينهنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فيها رجل برأيه ما شاء. انتهى منه.
وهذه الروايات تبين أن مراده بالتمتع: القران، ومعروف عن الصحابة رضي الله عنهم، أنهم يطلقون اسم التمتع على القران، لأن فيه عمرة في أشهر الحج مع الحج.
ومنها: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين حج وعمرة) ففي بعض روايات حديثه، قال (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن معه بالمدينة الظهر أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، ثم بات بها حتى أصبح، ثم ركب حتى استوت به على البيداء حمد الله وسبح وكبر، ثم أهل بحج وعمرة، وأهل الناس بهما) الحديث، هذا لفظ البخاري في صحيحه، وقد قدمنا بعض ألفاظ مسلم في حديث أنس في القران، ومخالفة ابن عمر له في ذلك، قائلا: إنه أفرد، وفي بعض روايات حديث أنس عند مسلم عن يحيى بن أبي إسحاق، وعبد العزيز بن صهيب، وحميد، أنهم سمعوا أنسا رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهل بهما جميعا: (لبيك عمرة وحجا، لبيك عمرة وحجا)، وقد روي عن أنس رضي الله عنه حديث قران النبي هذا ستة عشر رجلا، كما بينه العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، وهم الحسن البصري وأبو قلابة، وحميد بن هلال وحميد بن عبد الرحمان الطويل، وقتادة ويحيى بن سعيد الأنصاري، وثابت البناني، وبكر بن عبد الله المزني، وعبد العزيز بن صهيب، وسليمان التيمي، ويحيى بن أبي إسحاق، وزيد بن أسلم، ومصعب بن سليم، وأبو أسماء وأبو قدامة عاصم بن حسين، وأبو قزعة، وهو سويد بن حجر الباهلي.
ومنها: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها، وعن أبيها، قالت: يا رسول الله، ما شأن الناس حلوا بعمرة، ولم تحلل أنت من عمرتك؟ قال (إني لبدت رأسي وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر) انتهى منهما بلفظه. وهذه العمرة المذكورة في هذا الحديث المتفق عليه عمرة مقرونة مع الحج بلا شك في ذلك، كما جزم به النووي في شرح مسلم.
ومنها: ما رواه البخاري في صحيحه، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق، يقول: (أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة) ا ه. وقوله في هذا الحديث وقل عمرة في حجة يدل على القران، والمحتملات الأخر التي حمله عليها بعض المالكية والشافعية وغيرهم لا تظهر كل الظهور: بل معناه القران كما ذكرنا، وجزم به غير واحد والله تعالى أعلم، والأحاديث بمثل مما ذكرنا كثيرة.
وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد: منها بضعة وعشرين حديثا، عن سبعة عشر صحابيا وهم جابر، وعائشة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعمران بن حصين، والبراء بن عازب، وحفصة أم المؤمنين، وأبو قتادة، وابن أبي أوفى وأبو طلحة، والهرماس بن زياد، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن عفان رضي الله عنهم جميعا وعده لعثمان رضي الله عنه في جملة من روى القران، مع ما ثبت عنه من النهي عنه يعني به تقريره لعلي رضي الله عنه على القران.
وبالجملة: فثبوت كون النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا بالأحاديث الصحيحة، التي ذكرنا طرفا منها لا مطعن فيه، وقد قدمنا أن القائلين بأفضلية الإفراد معترفون بقرانه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، إلا أنهم جمعوا بين الأحاديث، بأنه أحرم أولا مفردا، ثم أدخل العمرة على الحج فصار قارنا. والذين قالوا: بأفضلية القران جزموا بأنه صلى الله عليه وسلم أحرم قارنا في ابتداء إحرامه، واستدلوا لذلك بأحاديث صحيحة.