الأولى: أن مشهور مذهب مالك، وأحمد، وأبي حنيفة رحمهم الله: صحة الاحتجاج بالمرسل، ومعلوم أن من يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس من باب أولى، كما قدمناه مرارا.
والثانية: أن المقصود من رواية أبي داود المذكورة بيان المراد برواية مسلم، والبيان يقع بكل ما يلزم الإبهام ولو قرينة أو غيرها، كما هو مقرر في الأصول. وقد قدمناه مرارا أيضا.
وما ذكره عن أبي ذر من الخصوصية المذكورة قاله عثمان بن عفان رضي الله عنه ورد المخالفون الاستدلال بالحديثين المذكورين من جهتين:
الأولى منهما: تضعيف الحديثين المذكورين، قالوا: حديث بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه المذكور عند أبي داود، والنسائي، وابن ماجة فيه ابنه الحارث بن بلال، وهو مجهول، قالوا: وقال الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله في حديث بلال المذكور: هذا الحديث لا يثبت عندي، ولا أقول به، قال: وقد روي فسخ الحج في العمرة أحد عشر صحابيا، أين يقع الحارث بن بلال منهم؟ قالوا: وحديث أبي ذر، عند مسلم موقوف عليه، وليس بمرفوع، وإذا كان الأول في سنده مجهول، والثاني موقوفا تبين عدم صلاحيتهما للاحتجاج.
الجهة الثانية: من جهتي رد الحديثين المذكورين: هي أنهما معارضان بأقوى منهما، وهو حديث جابر المتفق عليه: أن سراقة بن مالك بن جعشم، سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال في تمتعهم المذكور: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم (بل للأبد) وفي رواية في الصحيح فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى، وقال (دخلت العمرة في الحج مرتين لا بل لأبد أبد) ورد المانعون تضعيف الحديثين المذكورين، قالوا: حديث بلال المذكور سكت عليه أبو داود، ومعلوم من عادته أنه لا يسكت إلا عن حديث صالح للاحتجاج، قالوا: ولم يثبت في الحارث بن بلال جرح. وقد قال ابن حجر في التقريب فيه: هو مقبول، قالوا: واعتضد حديث بما رواه مسلم عن أبي ذر، كما رأيته آنفا قالوا: إن قلنا إن الخصوصية التي ذكرها أبو ذر بذلك الركب مما لا مجال للرأي فيه، فهو حديث صحيح له حكم الرفع، وقائله اطلع على زيادة علم خفيت على غيره، وإن قلنا إنه مما للرأي فيه مجال، كما يدل عليه كلام عمران بن حصين الآتي. وحكمنا بأنه موقوف على أبي ذر فصدق لهجة أبي ذر المعروف وتقاه، وبعده من الكذب يدلنا على أنه ما جزم بالخصوصية المذكورة، إلا وهو عارف صحة ذلك، وقد تابعه في ذلك عثمان رضي الله عنه قالوا: ويعتضد حديث الحرث بن بلال المذكور أيضا بمواظبة الخلفاء الراشدين في زمن أبي بكر، وعمر، وعثمان على الإفراد، ولو لم يعلموا أن فسخ الحج في العمرة خاص بذلك الركب لما عدلوا عنه إلى غيره، لما هو معلوم من تقاهم، وورعهم، وحرصهم على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فمواظبتهم على إفراد الحج نحو أربع وعشرين سنة يقوي حديث الحارث بن بلال المذكور. وقد رأيت الرواية عنهم بذلك في صحيح البخاري ومسلم، وكذلك غيرهم من المهاجرين والأنصار، كما أوضحه عروة بن الزبير رضي الله عنهما في حديثه المتقدم عند مسلم. قالوا: ورد حديث الحارث بن بلال بأنه مخالف لحديث جابر المتفق عليه في سؤال سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي النبي صلى الله عليه وسلم، وإجابته له بقوله: بل للأبد لا يستقيم، لأنه لا معارضة بين الحديثين لإمكان الجمع بينهما، والمقرر في علم الأصول، وعلم الحديث: أنه إذا أمكن الجمع بين الحديثين وجب الجمع بينهما إجماعا، ولا يرد غير الأقوى منهما بالأقوى، لأنهما صادقان، وليسا بمتعارضين، وإنما أجمع أهل العلم على وجوب الجمع بين الدليلين إن أمكن، لأن إعمال الدليلين معا أولى من إلغاء أحدهما كما لا يخفى، ووجه الجمع بين الحديثين المذكورين: أن حديث بلال بن الحارث المزني، وأبي ذر رضي الله عنهما محمولان على أن معنى الخصوصية المذكورة: التحتم والوجوب، فتحتم فسخ الحج في العمرة، ووجوبه خاص بذلك الركب، لأمره صلى الله عليه وسلم لهم بذلك، ولا ينافي ذلك بقاء جوازه ومشروعيته إلى أبد الأبد. وقوله في حديث جابر: بل للأبد، محمول على الجواز، وبقاء المشروعية إلى الأبد. فاتفق الحديثان. قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لنا صوابه في حديث (بل للأبد) وحديث الخصوصية بذلك الركب المذكورين: هو ما اختاره العلامة الشيخ تقي الدين أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى: وهو الجمع المذكور بين الأحاديث بحمل الخصوصية المذكورة على الوجوب والتحتم، وحمل التأييد المذكور على المشروعية والجواز أو السنة، ولا شك أن هذا هو مقتضى الصناعة الأصولية والمصطلحية، كما لا يخفى.