أضواء البيان - الشنقيطي - ج ٤ - الصفحة ٣٦٤
قال: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض الحديث. وفيه: فقدم النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله أي الحل؟ قال (الحل كله): وفي البخاري قال (حله كله) فقول ابن عباس في هذا الحديث الصحيح: فتعاظم ذلك عندهم، دليل على أنه في ذلك الوقت، لم يزل عظيما عندهم. ولو كانت العمر الثلاث المذكورة أزالت من نفوسهم ذلك إزالة كلية، لما تعاظم الأمر عندهم، فتعاظم ذلك الأمر عندهم المصرح به في حديث متفق عليه بعد صبح رابعة من ذي الحجة عام عشر، دليل على أن العمرة عام ست، وعام سبع، وعام ثمان ما أزالت ما كان في نفوسهم لشدة استحكامه فيها. وكذلك: إذنه لمن شاء أن يهل بعمرة السابق في حديث عائشة. والنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، مودع حريص على إتمام البيان، وحجة الوداع اجتمع فيها جمع من المسلمين، لم يجتمع مثله في موطن من المواطن في حياته صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن حجر في فتح الباري في الكلام على الحديث المذكور: فتعاظم عندهم: أي لما كانوا يعتقدونه أولا، وفي رواية إبراهيم بن الحجاج: فكبر ذلك عندهم انتهى منه.
قالوا: ولشدة عظمه عندهم، لم يمتثلوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة أولا، حتى غضب عليهم بسبب ذلك. وبذلك كله يتضح لك أنما كان مستحكما في نفوسهم، من أن العمرة في أشهر الحج، من أفجر الفجور في الأرض، لم يزل بالكلية إلى صبح رابعة ذي الحجة سنة عشر.
قالوا: وبه تعلم أن بيان جواز ذلك في حجة الوداع بعمل كل الصحابة الذين لم يسوقوا هديا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، واعتماره هو مع حجته، أعني قرانه بينهما أمر محتاج إليه جدا للبيان المذكور.
ومما يدل من الأحاديث الصحيحة على أن ما كان في نفوسهم من ذلك لم ينزل بالكلية: ما ثبت في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ (وأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه أن يجعلوها عمرة يطوفوا بالبيت ثم يقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي، فقالوا: ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر؟ فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت) الحديث. هذا لفظ البخاري رحمه الله، فقولهم في هذا الحديث الصحيح بعد أن أمرهم صلى الله عليه وسلم، أن يحلوا ننطلق إلى منى، وذكر أحدنا يقطر: يدل على شدة نفرتهم من الإحلال بعمرة في زمن الحج كما ترى. وذلك يؤكد الاحتياج إلى تأكيد بيان الجواز. وهذا الحديث الصحيح يدفع الاحتمال الذي في حديث ابن عباس المتقدم: لأن قوله (فتعاظم ذلك عندهم) يحتمل أن يكون موجب التعاظم، أنهم كانوا أولا محرمين بحج، ويدل لهذا الاحتمال حديث جابر الثابت في الصحيح: أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه، وقد أهلوا بالحج مفردا، فقال لهم: (أحلوا من إحرامكم بطواف البيت). الحديث. وفيه فقالوا: كيف نجعلها متعة، وقد سمينا الحج إلى آخر الحديث، فهذا الحديث يدل على أنهم إنما صعب عليهم الإحلال بالعمرة، لأنهم قد سموا الحج، لا لأن ما كان في نفوسهم من أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، لم يزل باقيا إلى ذلك الوقت، لأن حديث جابر المذكور، أعني قوله: فقالوا ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر، لا يحتمل هذا الاحتمال، بل معناه: أن تعاظم الإحلال بعمرة عندهم، لأنه في وقت الحج كما بينا، وهو يدل على أن ذلك هو المراد من هذا الحديث الأخير، وأنه ليس المراد الاحتمال المذكور، كما جزم به ابن حجر في الفتح في كلامه على الحديث الذي ذكرناه عنه آنفا.
ويبين أيضا: أن ذلك هو معنى حديث جابر عند مسلم، حيث قال رحمه الله في صحيحه: حدثنا ابن نمير، حدثني أبي، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة فكبر ذلك علينا، وضاقت به صدورنا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فما ندري أشيء بلغه من السماء، أم شيء من قبل الناس؟ فقال (أيها الناس أحلوا فلولا أن معي الهدي فعلت كما فعلتم) الحديث.
فقول جابر رضي الله عنه في هذا الحديث الصحيح: فكبر ذلك علينا، وضاقت به صدورنا، يدل على أن ما كان في نفوسهم من كراهة العمرة في أشهر الحج، لم يزل ولولا ذلك لما كبر عليهم، ولا ضاقت صدورهم بالإحلال بعمرة في أشهر الحج، كما أوضحه حديثه المذكور أيضا. وعلى هذا الذي ذكروه، فالذي استدبره من أمره، ولو استقبله لم يسق الهدي: هو ملاحظة البيان المذكور، وإن كان قد بين ذلك سابقا لاحتياجه إلى تأكيد البيان في مثل ذلك الجمع، وهو مودع، ولا ينافي ذلك أنه أمر القارنين بالفسخ المذكور مع أن العمرة المقرونة مع الحج فيها البيان المذكور، لأن العمرة المفردة عن الحج أبلغ في البيان، لأنها ليست مع الحج، فهي مستقلة عنه فلا يحتمل أنها إنما جازت تبعا له. وقد
(٣٦٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 362 363 364 364 364 364 365 366 367 368 369 ... » »»