لحديث جابر المتفق عليه في سؤال سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي النبي صلى الله عليه وسلم، وإجابته له بقوله: بل للأبد لا يستقيم، لأنه لا معارضة بين الحديثين لإمكان الجمع بينهما، والمقرر في علم الأصول، وعلم الحديث: أنه إذا أمكن الجمع بين الحديثين وجب الجمع بينهما إجماعا، ولا يرد غير الأقوى منهما بالأقوى، لأنهما صادقان، وليسا بمتعارضين، وإنما أجمع أهل العلم على وجوب الجمع بين الدليلين إن أمكن، لأن إعمال الدليلين معا أولى من إلغاء أحدهما كما لا يخفى، ووجه الجمع بين الحديثين المذكورين: أن حديث بلال بن الحارث المزني، وأبي ذر رضي الله عنهما محمولان على أن معنى الخصوصية المذكورة: التحتم والوجوب، فتحتم فسخ الحج في العمرة، ووجوبه خاص بذلك الركب، لأمره صلى الله عليه وسلم لهم بذلك، ولا ينافي ذلك بقاء جوازه ومشروعيته إلى أبد الأبد. وقوله في حديث جابر: بل للأبد، محمول على الجواز، وبقاء المشروعية إلى الأبد. فاتفق الحديثان. قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لنا صوابه في حديث (بل للأبد) وحديث الخصوصية بذلك الركب المذكورين: هو ما اختاره العلامة الشيخ تقي الدين أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى: وهو الجمع المذكور بين الأحاديث بحمل الخصوصية المذكورة على الوجوب والتحتم، وحمل التأييد المذكور على المشروعية والجواز أو السنة، ولا شك أن هذا هو مقتضى الصناعة الأصولية والمصطلحية، كما لا يخفى.
واعلم: أن الشافعية والمالكية، ومن وافقهم يقولون: إن قوله صلى الله عليه وسلم (بل للأبد) لا يراد به فسخ الحج في العمرة، بل يراد به جواز العمرة في أشهر الحج، وقال بعضهم: المراد به دخول أفعالها في أفعال الحج في حالة القران.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: هذا المعنى الذي حملت عليه المالكية، والشافعية قول النبي لسراقة (بل للأبد) ليس هو معناه، بل معناه: بقاء مشروعية فسخ الحج في العمرة، وبعض روايات الحديث ظاهرة في ذلك ظهورا بينا لا يجوز العدول عنه، إلا بدليل يجب الرجوع إليه، بل صريح في ذلك.
وسنمثل هنا لبعض تلك الروايات فنقول: ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه ما لفظه: فقال صلى الله عليه وسلم (لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة.) فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه