أضواء البيان - الشنقيطي - ج ٤ - الصفحة ٣٦٤
واعلم: أن الشافعية والمالكية، ومن وافقهم يقولون: إن قوله صلى الله عليه وسلم (بل للأبد) لا يراد به فسخ الحج في العمرة، بل يراد به جواز العمرة في أشهر الحج، وقال بعضهم: المراد به دخول أفعالها في أفعال الحج في حالة القران.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: هذا المعنى الذي حملت عليه المالكية، والشافعية قول النبي لسراقة (بل للأبد) ليس هو معناه، بل معناه: بقاء مشروعية فسخ الحج في العمرة، وبعض روايات الحديث ظاهرة في ذلك ظهورا بينا لا يجوز العدول عنه، إلا بدليل يجب الرجوع إليه، بل صريح في ذلك.
وسنمثل هنا لبعض تلك الروايات فنقول: ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه ما لفظه: فقال صلى الله عليه وسلم (لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة.) فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال: (دخلت العمرة في الحج مرتين، لا بل لأبد أبد) انتهى المراد منه. وهو صريح في أن سؤال سراقة عن الفسخ المذكور، وجواب النبي له: يدل على تأييد مشروعيته كما ترى، لأن الجواب مطابق للسؤال، فقول المالكية، والشافعية، ومن وافقهم: بأن الفسخ ممنوع لغير أهل حجة الوداع، لا يستقيم مع هذا الحديث الصحيح المصرح، بخلافه كما ترى.
ودعواهم أن المراد بقوله (بل لأبد أبد) جواز العمرة في أشهر الحج، أو اندراج أعمالها فيه في حال القران بعيد من ظاهر اللفظ المذكور كما ترى، وأبعد من ذلك دعوى من ادعى أن المعنى: أن العمرة اندرجت في الحج: أي اندرج وجوبها في وجوبه، فلا تجب العمرة: وإنما تجب على المكلف حجة الإسلام دون العمرة، وبعد هذا القول وظهور سقوطه كما ترى.
والصواب إن شاء الله: هو ما ذكرنا من الجمع بين الأدلة، ووجهه ظاهر لا إشكال فيه.
وقال النووي في شرح المهذب في الجواب عن قول الإمام أحمد: أين يقع الحارث بن بلال من أحد عشر صحابيا رووا الفسخ عنه صلى الله عليه وسلم ما نصه قلت: لا معارضة بينهم، وبينه، حتى يقدموا عليه، لأنهم أثبتوا الفسخ للصحابة، ولم يذكروا حكم غيرهم، وقد وافقهم الحارث في إثبات الفسخ للصحابة، ولكنه زاد زيادة لا تخالفهم وهي اختصاص الفسخ بهم ا ه.
وإذا عرفت مما ذكرنا أدلة الذين ذهبوا إلى تفضيل الإفراد على غيره من أنواع النسك، وعلمت أن جوابهم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة، أنه لإزالة ما كان في نفوسهم من أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، وأن الفعل المفعول لبيان الجواز، قد يكون أفضل بذلك الاعتبار من غيره، وإن كان غيره أفضل منه بالنظر إلى ذاته.
فاعلم أنهم ادعوا الجمع بين الأحاديث الصحيحة المصرحة بأنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا والأحاديث الصحيحة المصرحة بأنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعا وكلها ثابتة في الصحيحين، وغيرهما في حجة الوداع مع الأحاديث المصرحة، بأنه كان مفردا التي هي معتمدهم في تفضيل الإفراد بأنه صلى الله عليه وسلم أحرم أولا مفردا، ثم بعد ذلك أدخل العمرة على الحج، فصار قارنا، فأحاديث الإفراد يراد بها عندهم، أنه هو الذي أحرم به أول إحرامه، وأحاديث القران عندهم حق، إلا أنه عندهم أدخل العمرة على الحج فصار قارنا وصيرورته قارنا في آخر الأمر هي معنى أحاديث القران، فلا منافاة. أما الأحاديث الدالة على أنه كان متمتعا، فلا إشكال فيها، لأن السلف يطلقون اسم التمتع على القران من حيث إن فيه عمرة في أشهر الحج مع الحج، وكذلك أمره لأصحابه بالتمتع وتمنيه له، وتأسفه على فواته بسبب سوق الهدي في قوله: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي وجعلتها عمرة) كفعله له قالوا: وبهذا تتفق الأحاديث، ويكون التمتع المذكور بفسخ الحج في العمرة لبيان الجواز، وهو بهذا الاعتبار أفضل من غيره فلا ينافي أن الإفراد أفضل منه بالنظر إلى ذاته، كما سار عليه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، قالوا: ولما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة أسفوا، لأنهم أحلوا وهو باق على إحرامه، فأدخل العمرة على الحج لتطيب نفوسهم، بأنه صار معتمرا مع حجه لما أمرهم بالعمرة والمانع له من أن يحل كما أحلوا هو سوق الهدي، قالوا فعمرتهم لبيان الجواز، وعمرته التي بها صار قارنا لمواساتهم لما شق عليهم أنه خالفهم، فصار تمتعهم وقرانه بهذا الاعتبار أولى من غيرهما، ولا يلزم من ذلك أفضليتهما في كل الأحوال، بعد زوال الموجب الحامل على ذلك.
قالوا: وهذا هو الذي لاحظه الخلفاء الراشدون: أبو بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم، فواظبوا على الإفراد نحو أربع وعشرين سنة، كلهم يأخذ بسنة الخليفة الذي قبله في ذلك.
قالوا: وما قاله جماعة من أجلاء العلماء، من أن بيان جواز العمرة في أشهر الحج عام حجة الوداع لا داعي له، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك بيانا متكررا في سنين متعددة: وذلك لأنه اعتمر عمرة الحديبية عام ست، وعمرة القضاء عام سبع، وعمرة الجعرانة عام ثمان وكل هذه العمر الثلاث في ذي القعدة من أشهر بالحج.
قالوا: وهذا البيان المتكرر سنة بعد سنة كاف غاية الكفاية، فلا حاجة إلى بيان ذلك بأمر الصحابة بفسخ الحج في العمرة. وكذلك قوله (ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل) المتقدم في حديث عائشة.
وإذا كان بيان ذلك لا حاجة إليه تعين أن الأمر بالفسخ المذكور لأفضلية التمتع على غيره لا بشيء آخر. لا شك في أنه ليس بصحيح، وأن بيان ذلك محتاج إليه غاية الاحتياج في حجة الوداع، ولشدة الاحتياج إلى ذلك البيان أمرهم صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة، والدليل على ذلك: هو ما ثبت في حديث ابن عباس المتفق عليه، وقد ذكرناه في أول هذا المبحث.
(٣٦٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 361 362 363 364 364 364 364 365 366 367 368 ... » »»